الشباب بين صراع الهويَّات وصلابة الأنظمة التشاركيَّة: الطائفة التاسعة عشرة في لبنان

لاريسَّا أبو حرب

ينضوي لبنان تحت خانة الدول المنقسمة طائفيًّا، ونعني بذلك الدول التي تقطنها مجموعاتٌ متعدِّدة، تصف الاختلاف في ما بينها بِصفاتٍ اجتماعيَّة مبنيَّة على العرق، أو الدين، أو اللغة، أو الإثنيَّة، أو غيرها. منذ نشأته، طغى على لبنان الوصف الطائفي، من جبل لبنان وشقَّيه الدرزي والمسيحي، مرورًا بإعلان دولة لبنان الكبير، وصولًا إلى استقلال العام 1943، والحديث عن الجناحَين المسلم والمسيحي لطائر الفينيق اللبناني. لكنَّ هذا الاختلاف لم يبقَ اختلافًا إيمانيًّا عقائديًّا، بل تسيَّس، وأصبحت الهويَّة الطائفيَّة بابُك إلى دخول المعترك السياسي. فالمجلس النيابي منقسمٌ مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، فيما المناصب الأساسيَّة محتكرة من الطوائف: رئاسة الجمهوريَّة للموارنة، ورئاسة المجلس النيابي للشيعة، ورئاسة مجلس الوزراء للسنَّة.

في هكذا جوّ، يتمُّ تناقل الهويَّات الطائفيَّة بالوراثة. فطائفتك تُكتب على جبينك من مهدك إلى لحدك، وإيَّاك العصيان أو السؤال أو التساؤل.

الشباب اللبناني الذين لم يشهدوا على ويلات الحرب الأهليَّة، لا يفهمون حقيقةً لماذا هم يكبرون في جوٍّ مشحونٍ طائفيًّا، يُعرف به من لا يتبع الدين نفسه بِـ”الآخر” أو “الغير”، عوضًا عن إرساء قاعدةٍ مواطنيَّةٍ واحدة تجمع ولا تفرِّق. كذلك، يحتِّم التقدُّم الذي يشهده العالم التفريق بين المواطن والمؤمن، وسموّ دولة القانون والمساواة في الحقوق والواجبات على الإيمان الشخصي الذي يجب أن يُمارس بعيدًا عن السياسة، في دور العبادة حصرًا. التبرير الوحيد الذي أعطي في السابق، ولا يزال يعطى حتَّى اليوم هو التالي: الاصطفافات السياسيَّة الإقليميَّة تبرِّر الخوف على الهويَّة والوجود، وتحتِّم علينا المطالبة بضماناتٍ للطائفة. بيد أنَّ الحقيقة بعيدةٌ كلّ البعد عن ذلك. 

إنَّ النظام السياسي اللبناني بشكله الحالي يخدم الطبقة الحاكمة بجميع تفاصيله. فعدم إقرار قانونٍ مدني موحَّد للأحوال الشخصيَّة يعني سيطرة المراجع الدينيَّة على حياة الفرد. وشبكات الزبائنيَّة التي نخرت الدولة، أرست مرجعيَّة المواطن لدى الزعامات الطائفيَّة، يستجدي منها حقوقه. حتَّى القطاعان التعليمي والصحِّي تسيطر عليهما المرجعيَّات الدينيَّة، ما يساهم في استمرار اهتراء الدولة من الداخل. هذا ولم نتطرَّق بعد إلى وجود ميليشيا مسلَّحة تضرب عرض الحائط مفهوم الدولة من أساسه. إذًا، لقد خُيِّط النظام على قياس الطبقة الحاكمة بشكلٍ غير قابلٍ للخرق.

أمام هذا الواقع المظلم، ما كان على الشباب اللبناني المؤمن بسموّ المواطنة على الطائفة إلَّا الدخول على المعترك السياسي عنوةً، تحديدًا من خارج الأحزاب التي لا يريد معظمها خلع العباءة الطائفيَّة عنه. توجَّه الشباب إلى الشارع ومن أبرز ما فعلوه، أمران:

أوَّلًا: شيَّدوا الخيم وقالوا هيَّا بنا نتحدَّث عن المحرَّمات، عن الجرائم الاقتصاديَّة والسياسيَّة التي ارتُكبت بحقَّنا تحت مسمَّى إعادة الإعمار، وبناء لبنان الجديد. إنَّ ما حصل في شوارع المناطق اللبنانيَّة إن عكس شيئًا ما، فهو عطش الشباب اللبناني إلى حياةٍ سياسيَّة تشبهه، بنظافتها، وحيويَّتها، وتركيزها على القطاعات الناشئة، من التكنولوجيا والعلوم وغيرها. خرج الطلَّاب من المدارس والجامعات وطافوا الشوارع في مشهدٍ حرَّك حتَّى الصحافة العالميَّة. لقد شكلَّت مساحة التظاهر هذه مساحة التقاء لجيلٍ قرَّر كسر الحواجز وبناء الجسور، ومن هنا أتت فكرة السلسلة البشريَّة من جنوب البلاد حتَّى شمالها.

ثانيًا، أطَّروا سياسة التظاهر ونظَّموها في حركاتٍ سياسيَّةٍ ناشئة. وعلى الرغم من جميع الملاحظات في هذا الصدد، إنَّ الشباب اللبناني يسعى، وفعلًا باللحم الحي، إلى إيجاد بديل. هؤلاء الشباب، المغتربون والمقيمون منهم، كانوا نواة إسقاط 14 نائبًا من الأحزاب التقليديَّة منذ أسبوعَين خلال الانتخابات النيابيَّة، وأعطوا قدرةً تمثيليَّةً أكبر لمن يعبِّر عنهم. هناك من يعتبر أفكارهم مشتَّتة أو قدرتهم على المواجهة ركيكة، لكنَّ ما أثبتوه أنَّ الإرادة قادرة على خرق أكثر الأنظمة صلابةً. ومن الجدير ذكره أنَّ الأفكار لا تولد بطبيعتها ناضجةً وجاهزةً للتطبيق، بل هي تنضج مع التجربة. والتجربة تنطوي على لحظاتٍ من الفشل أيضًا.

صحيح أنَّ مشوار الشباب اللبناني لا يزال في بدايته، ولكنَّه واعد. ولو أنَّ مستقبل البلاد ليس مشرقًا، لأنَّ من باع البلد منذ زمن لا يزال الآمر الناهي، إلَّا أنَّ الشباب اللبناني قد حاول… وله على الأقلّ شرف المحاولة والصمود.

لاريسَّا أبو حرب

طالبة دكتوراه في قسم العلوم السياسيَّة في جامعة إكستر. تبحث في أطروحتها كيفيَّة قيام الحركات الاحتجاجيَّة غير الإثنيَّة في الدول المنقسمة إثنيًّا ببلورة استراتيجيَّات المواجهة ضدَّ السلطة، وذلك من خلال دراسة مقارنة بين موجة التظاهر في البوسنة والهرسك عام 2014 وحراك 17 تشرين في لبنان في العام 2019. تركِّز أبو حرب في بحثها هذا على الديناميَّة داخل الحراك نفسه، وعلى تعاطيه مع السلطات بشقَّيها السياسي والأمني.  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى