الشباب وسيسيولوجيا المجتمع الرقمي

*عبدالله الجبور

ساهمت جائحة كورونا التي تجتاح العالم في إحداث تغيرات في السلوك البشري، حيث تحولت العلاقات بشكل مفاجئ إلى التواصل والتفاعل في العالم الرقمي، ويمكن القول بأن “السجن الرقمي” الذي أوجدته الجائحة أنتج سياقات اجتماعية مضطربة فيما يتعلَّق بالتواصل والعاطفة، وعلى حد توصيف كيت أورتون “إذا كانت تكنولوجيا الاتصال قد صاغت مجتمعات جديدة ذات اهتمام وارتباط وانتماء مشترك، فإنها عززت أيضاً الحواجز والمواقع والثقافات الاجتماعية السائدة”.

الاختناق والتفاعل الرقمي

 شهدت أوائل التسعينيات من القرن العشرين حتى منتصفها على وجه الخصوص اهتماماً متزايداً بدراسة المجتمعات الرقمية والشبكات الاجتماعية القائمة على الإنترنت والعديد من الإمكانات التي بدا أن الاتصال عبر الإنترنت يتيحها لتطوير علاقات كونية وعابرة للثقافات، وغير خاضعة للقيود التي يفرضها الزمان والمكان. وتوجد الآن أكثر من أي وقت مضى مواقع يمكن الاتصال من خلالها، إلى جانب التكوينات الاجتماعية المستندة إلى الشبكة والتي أُنشئت حديثا، ويمكن استخدامها في تكوين صداقات جديدة أو للحفاظ على الصداقات القديمة والانتقال من مجتمع أقل تعددية إلى مجتمع مفتوح غني بالثقافات والتجارب والأفكار.

سوسيولوجيا الفجوة الرقمية

تؤدّي العوامل الاجتماعية ـ الاقتصادية دوراً رئيسياً في قدرة الجيل على تنمية مهارات تكنولوجية تنسحب على دراسته وعمله وعلاقاته الاجتماعية، حيث أن الأسرة ذات الدخل المرتفع تتمتع منذ وقت طويل قبل الجائحة بوفرة الإنترنت، الأمر الذي يتيح استخدام التكنولوجيا على نحو أكثر تواتراً ويوفر تحكماً أفضل في التكنولوجيا وتسخير ذلك في المستقبل المهني وريادة الأعمال.

يمكن تقسيم أكثر الشباب استخداما للتكنولوجيا الرقمية إلى نوعان: الأول يبني لنفسه مساحة واسعة من الاستهلاك الرقمي الأمر الذي ينعكس سلباً على العلاقات الاجتماعية خارج الإنترنت، بينما الثاني على العكس تماماً، يبني لنفسه مساحة إنتاج وتفاعل حيوي تنعكس في تشكيل شبكات اجتماعية كبيرة خارج الإنترنت، بالتالي الوصول إلى التكنولوجيات يتيح للشباب المنتمي إلى أوساط اجتماعية محظوظة ممارسة أنشطة في المجال الرقمي تمكنهم من اكتساب مهارات أكثر شمولاً وفائدة. وهذا الواقع يكشف “الفجوة الرقمية” بين من يستخدم التكنولوجيات على نحو فعال ومن يستخدمها على نحو أضيق.

هوية شخصية جديدة في العصر الرقمي

على حد توصيف كتاب (علم الاجتماع الرقمي: منظورات نقدية) إن ظهور فكرة التكنولوجيات والشبكات الحديثة في العصر الرقمي ستبشر بنشوء تكوينات مجتمعية جديدة، ومثل هذه الشبكات ستثبت أنها أكثر ديمومة وشعبية من الفضاءات المادية غير المنضبطة والمتناقضة التي نشأ فيها المجتمع المحلي في القرن العشرين. وبالنسبة إلى بناة المجتمع المحلي الجديد في العصر الرقمي، فإن الفضاءات القديمة للمجتمع المحلي هي إما ميتة بالفعل وإما أنها في طور الاحتضار، بالتالي إن الوعي الاجتماعي بالمستقبل سيقوم على أساس الشبكات الشخصية، التي ستكون بمنزلة الجذور التي ستنشأ منها مجتمعات الانتماء التي تتميز بأنها مختلفة وصاحبة رؤية جديدة ومستعدة لمواجهة التحديات المختلفة. بالإضافة إلى ذلك قد يتمكن أولئك الذين أُقصوا في السابق، مثل الأقليات بجميع مشاربهم، من العثور على الروابط ونقاط الاندماج الخاصة بهم  ضمن العوالم الافتراضية.

التفكير السوسيولوجي بالتعليم في العصر الرقمي

أثبتت التكنولوجيات أنها حجر الأساس في تطوير المنظومة التعليمية، والحياة المهنية، والأنشطة الاجتماعية، والترفيه. فتبعات الانتقال إلى التعليم عن بُعد، والعمل عن بُعد، والحياة الاجتماعية عبر الإنترنت، وما أسفرت عنه من تجارب وعواقب بالنسبة إلى الشباب؛ أفضت إلى التسريع في هذا التوجه، وبما أن التعليم في العصر الرقمي مهماً لاستمرارية العملية التعليمية خصوصاً وقت الأزمات، فمن الضروري طرح أسئلة مهمة اجتماعياً حوله. إن تطوير هذه الأسئلة إلى تحليلات تجريبية ونظرية مستدامة يجب أن يشكل الآن الخطوة التالية لإعادة التفكير السوسيولوجي بالتعليم في العصر الرقمي.

 ومن الضروري أيضاً التأكيد على أهمية السياق الاجتماعي في هذا المجال. فطريقة استخدام الأُسر أو المربّين أو الأصدقاء للتكنولوجيات بغاية التعلم، والعمل، والترفيه، تكتسي أهمية بالغة من حيث الطريقة التي ينظر بها الشباب إلى هذه التكنولوجيا. وقد بينت جائحة كوفيدـ19مدى ارتباطنا الوثيق بالشاشات وإلى أي درجة يمثل النفاذ الجيد والشبكات الاجتماعية المتطورة مزايا واضحة، وبحسب اليونسكو، فقد ألقى “المجال الرقمي الافتراضي” الضوء على نحو ساطع، على أوجه عدم المساواة التي كانت بطبعها موجودة من قبل. وينبغي أن يحثنا ذلك على إنشاء مجتمع رقمي أكثر شمولاً وإدماجاً لجميع الأجيال.

خاتمة:

لقد نشأت الفكرة القائلة بأن شابات وشبان اليوم هم “جيل الفضاء الرقمي”، أو digital natives (الجيل الرقمي)، ويُعتقد أن شباب اليوم قادر على القيام بمهام متعددة في الآن ذاته، وأن قدرته على التركيز محدودة، وأنّه يفضل التعامل مع الجانب البصري والتفاعلي. والخلاصة هي ضرورة إحداث تغيير جذري لتكييف المؤسسات التعليمية والحكومات وأصحاب المصلحة مع هذا الجيل المرتبط إلى حد كبير بشبكة الإنترنت.

-مقالة منشورة للأستاذ عبدالله الجبور في منصة “هنا صوتك .. صوت النهضة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى