نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس
*استخلص هذا النص من كتاب “الحصاد الفلسفي للقرن العشرين” للدكتورة عطيات أبو السعود.
يدين هابرماس في نظريته عن الفعل التواصلي إلى فلسفة اللغة كما صرح هو نفسه بذلك في إحدى مقابلاته: «أنا مدين لكل من النزعات التداولية والتحليلية للنظرية اللغوية … إن غاية الفهم المتبادل مغروسة في الاتصال اللغوي.»٢٦ كما استمد أيضًا بعض عناصرها — أي نظرية الفعل التواصلي — من نظرية أفعال الكلام بوجه خاص، ومن علم اللغة الاجتماعي «إن مفهوم الفعل التواصلي يفترض اللغة بوصفها الوسط الذي يمكن أن يتحقق فيه نوع من التفاهم، ومن خلاله يستطيع المشاركون في التفاعل أن يُثيروا مزاعم الصدق التي يمكن الاتفاق عليها أو الاختلاف حولها.»٢٧ كما طور هابرماس نظريته من بعض الأفكار المتعلقة بالمضامين التي ينطوي عليها الحوار أو المحادثة كما طورها مفكرون من أمثال بول جرايس.٢٨ وقد كان أحد الأسباب التي دفعت هابرماس إلى هذا التحول نحو اللغة هو بغير شك ذلك «الرفض المنتشر على نطاق واسع لما يسمى بالحجج التأسيسية في كل أشكالها ومظاهرها.»٢٩ وقد كان من أسباب هذا التحول أيضًا اقتناع هابرماس المتزايد بأن التفكير التنويري (أو مشروع الحداثة) قد قام بالتحديد بمثل هذا النقد، وذلك بتركيزه الشديد على النموذج المعرفي المتمركز حول الذات. لهذا كان هدفه هو إعادة صياغة هذا المشروع التنويري أو الحداثي من خلال ما سماه بالبراجماطيقا (أو التداول اللغوي).لقد صاغ هابرماس من مفهومه الجديد عن العقلانية نظرية في الفعل التواصلي تنشئ «علاقة داخلية بين البراكسيس (الممارسة) وبين العقلانية وتدرس المتضمنات العقلية التي تفترضها ممارسة تواصلية يومية، وتتيح للمضمون المعياري المرتبط بالفاعلية الموجهة نحو الفهم المتبادل التوصل إلى مفهوم عقلانية تواصلية.»٣٠ وتدخل نظرية الفعل التواصلي ضمن إطار مشروع هابرماس الأكبر، وهو تأسيس نظرية نقدية للمجتمع الحديث، ويمكن إجمال مشروعه في مراحل ثلاث: يرى في المرحلة الأولى ضرورة التحرر من «فلسفة الوعي»، وهي الفلسفة التي ترى أن العلاقة بين اللغة والفعل كالعلاقة بين الذات والموضوع، بينما يؤكد هابرماس أن العلاقة في الفعل التواصلي تكون بين ذات وذات. ويرى في المرحلة الثانية ضرورة أن يتخذ الفعل صورتين: الفعل الاستراتيجي، ويتضمن الفعل العقلاني الغائي، وفعل التواصل الذي يرمي للوصول إلى الفهم. ويرى في المرحلة الثالثة ضرورة إعطاء فعل التواصل الأولوية مما يترتب عليه أمور ثلاثة؛ أولًا: أن العقلانية — بهذا المعنى — تستلزم نسقًا اجتماعيًّا ديمقراطيًّا يشمل الجميع، ولا يستبعد أحدًا، وهدفه ليس الهيمنة، بل الوصول إلى تفاهم. ثانيًا: ثمة نظام أخلاقي — يحاول هابرماس الكشف عنه — يتوجه إلى التوصل لمعايير عبر نقاش عقلاني حر، تبحث فيه نتائج كل معيار من تلك المعايير الأخلاقية، أي نظام يلقَى القبول والرضا عن طريق الإقناع العقلي، وليس عن طريق القوة أو القسر. ثالثًا: فكرة وجود مجتمع ديمقراطي بحق، يكون فيه للجميع فرص متكافئة لاستخدام أدوات العقل، كالمساهمة في الحوار، ويكون لكل فرد فيه صوت مسموع يحسب حسابه عند اتخاذ القرار النهائي.٣١ويمثل مفهوم الفعل التواصلي — كما حدده هابرماس نفسه في تصديره للكتاب الذي يحمل نفس العنوان — مدخلًا لثلاثة موضوعات متشابكة؛ أولًا: مفهوم العقلانية التواصلية الذي هو ذو طابع شكي، وإن كان في نفس الوقت يقاوم الاقتصار على معالجة العقل من الناحية المعرفية معالجة أداتية. ثانيًا: مفهوم ثنائي المستوى عن المجتمع يربط بن العالم المعيش ونماذج المنظومات (أو المؤسسات) في شكل ليس إنشائيًّا فحسب. ثالثًا وأخيرًا: نظرية عن الحداثة تفسر نمط الأمراض الاجتماعية المتزايدة في عصرنا الحديث.٣٢ والمقصود — إذن — بنظرية الفعل التواصلي هو وضع سياق الحياة الاجتماعية التي نجمت عن مفارقات الحداثة في إطار تصوري عقلي أو مفهومي، ومعنى هذا بعبارة أخرى أن هابرماس أراد إحكام البناء التصوري العقلي للبناءات الاجتماعية التي يتم فيها التواصل.يعرض هابرماس أربعة نماذج للفعل استقاها من نظريات العلوم الاجتماعية:
- (١)النموذج الغائي للفعل، ويُطلق عليه اسم النموذج الاستراتيجي، وغالبًا ما يفسر تفسيرًا نفعيًّا؛ فالفاعل يفترض أنه يختار ويحسب الوسائل والغايات من وجهة نظر تحقيق أكبر قدر من المنفعة. وهذا النموذج هو الذي يكمن وراء كل مناهج البحث النظرية التي تحتاج إلى اتخاذ قرار في الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس الاجتماعي.
- (٢)مفهوم نموذج الفعل الذي توجهه وتنظمه المعايير، وهذا النموذج لا يشير إلى سلوك أفراد منعزلين يلتقون مصادفة بأفراد آخرين في محيطهم، وإنما يشير إلى سلوك أعضاء في جماعة اجتماعية يوجهون أفعالهم نحو قِيَم مشتركة. فالفاعل الفرد يعمل وفق معيار معين (أو يخرق هذا المعيار) عندما تتوافر في موقف معين شروط معينة يمكن أن ينطبق فيها ذلك المعيار. والمعايير تعبر عن اتفاق يتم التوصل إليه في داخل جماعة اجتماعية معينة. وجميع أعضاء الجماعة الذين يعتقدون بصدق معيار معين ينتظر منهم أن يتوقعوا من كل واحد منهم أن يقوم بتنفيذ الأفعال المطلوبة أو الامتناع عنها عندما تحكم بذلك مواقف معينة. والمفهوم الأساسي للموافقة على المعيار معناه الوفاء بتوقع سلوك معين. وهذا السلوك الأخير لا يحمل المعنى المعرفي بتوقع حدث متنبأ به، وإنما يحمل المعنى المعياري الكامن في توقع الأعضاء لسلوك معين. إن هذا النموذج المعياري للفعل يكمن وراء نظرية الدور المعروفة في علم الاجتماع.
- (٣)مفهوم الفعل الدرامي لا يحيل في المقام الأول إلى فاعل منفرد أو عضو في جماعة اجتماعية، وإنما يحيل إلى المساهمين في فعل مشترك، بحيث يكونون جمهورًا يعرضون أنفسهم أمامه. والفاعل هنا يُثير في جمهوره صورة معينة أو إحساسًا معينًا عنه هو نفسه. وذلك بالكشف عن ذاتيته كشفًا متعمدًا أو غير متعمد (بشكل مباشر أو غير مباشر). ففي الفعل الدرامي يستغل المساهمون هذا، ويحركون أفعالهم المشتركة بإتاحة الفرصة للتعرف على عوالمهم الذاتية. وهكذا فإن مفهوم تقديم الذات لا يعني السلوك التعبيري التلقائي، بل التعبير المنظم عن التجارب الشخصية بالنظر إلى جمهور يراقب هذا التعبير. إن النموذج الدرامي للفعل يستخدم قبل كل شيء في الوصف الفينومينولوجي للأفعال المشتركة «بين الذوات»، ولكنه لم يتطور حتى الآن، بحيث يصبح منهجًا نظريًّا عامًّا.
- (٤)أخيرًا نصل إلى مفهوم الفعل التواصلي الذي يُحيل إلى الفعل المشترك لذاتَين على الأقل قادرين على الكلام والفعل وإقامة علاقات شخصية مشتركة (سواء كانت علاقات لغوية أو غير لغوية)، إن الفاعلين هنا يسعون إلى تفهم موقف الفعل، وفهم خططهما للفعل؛ وذلك لكي ينسقَا أفعالهما بالتراضي أو الاتفاق بينهما. والمفهوم الأساسي عن التفسير يشير في المقام الأول إلى السعي إلى تعريفات أو تحديدات للموقف، بحيث يمكن التوصل فيه إلى إجماع، وكما سنرى فإن اللغة لها مكان متميز في هذا النموذج.٣٣
تلعب اللغة إذن دورًا أساسيًّا في نظرية الفعل التواصلي باعتبارها — أي اللغة — الوسيط الأساسي للتواصل بين الذوات. وحجة هابرماس في هذا هو أن قدرتنا على التواصل ذات بنية وقواعد أساسية لا توجد إلا في اللغة التي تتعلمها وتتحدث بها كل الذوات. فالتجربة التواصلية ليست هي القدرة على إنتاج جمل لها قواعد، وليست اللغة مجرد «نسق من الرموز له تركيبه النحوي ومعجمه وصوتياته … أو له خصائصه الدلالية فقط، بل يهتم هابرماس باللغة من منظور خصائصها التداولية، فاللغة تشكِّل عنده نسقًا من القواعد تساعد على توليد تعبيرات لدرجة أن كلَّ تعبيرٍ مصاغٍ بشكل صحيح يعتبر عنصرًا من عناصر هذه اللغة. ومن ثَم فإن الذوات القادرة على استعمال هذه التعبيرات تشارك في عمليات التواصل؛ لأنها تستطيع التعبير وفهم الجمل والجواب عليها»،٣٤ تتشكل اللغة إذن من خلال التفاعل بين الذوات، والحديث بين المشاركين في التفاعل يربطهم بالعالم المعيش حولهم، وبالذوات الأخرى، ويربطهم أيضًا بمشاعرهم ورغباتهم ومقاصدهم. ولذلك ترتبط نظرية الفعل التواصلي عند هابرماس بنظرية أفعال الكلام.وتقدم أفعال الكلام «بنية تلتقي فيها ثلاثة مكونات: (١) مكون جملي مهمته تصور (أو ذكر) أحوال الشيء. (٢) مكون فعل منطوق مهمته عقد علاقات بين الأشخاص. (٣) وأخيرًا مكون لساني يعبر عن قصد المتكلم.٣٥ واستنادًا إلى هذه الوظائف الثلاث للغة يمكن استخلاص ثلاثة جوانب مختلفة للمصداقية يتسنَّى وفقًا لها رفض المستمع لعبارة المتكلم إذا رفض إما «حقيقة» ما أكد في العبارة (أو أيضًا حقيقة الافتراضات الوجودية التي تُشرف على مضمون العبارة)، «صحة» فعل اللسان نظرًا للسياق المعياري، للصياغة (أو أيضًا شرعية السياق المفترض ذاته)، وإما أخيرًا «صدق» القصد الذي عبر عنه المتحدث (أي التطابق المفترض بين ما أراد قوله وبين ما قاله).»٣٦ هكذا تقضي نظرية الفعل التواصلي إلى مبدأ يقرُّ بأننا نفهم قضية أو عبارة ما عندما نعرف شروط صحتها.إن الأفعال التي تخضع للمعايير، مثلها مثل التأكيدات أو الأفعال الكلامية التقريرية، لها طابع التعبيرات الدالة على معنى وتكون قابلة للفهم في سياقها الخاص، كما أنها مرتبطة بمزاعم الصدق القابلة للنقد، فهي تحيل إلى معايير وتجارب ذاتية أكثر مما تحيل إلى وقائع خالصة. والفاعل في هذه الحالة يؤكد أن سلوكه صحيح بالنسبة إلى سياق معياري مشروع، أو أن أقواله بضمير المتكلم عن تجربة شخصية مارسها هي أقوال صادقة وأمينة. بيدَ أن هذه التعبيرات يمكن أن يسريَ عليها الخطأ كما يسري على الأفعال الكلامية التقريرية، ذلك «أن إمكانية اعتراف الذوات فيما بينها بمزاعم الصدق القابلة للنقد هو عنصر أساسي من عناصر عقلانيتها، والمعرفة الكامنة في الأفعال الخاضعة للمعايير أو في التعبيرات الذاتية، هذه المعرفة لا تُحيل إلى حالات واقعية للأشياء، بل تُحيل إلى صدق المعايير أو إلى التعبير عن التجارب الذاتية. إن المتكلم الذي يُفصح عن هذه التعبيرات لا يحيلنا إلى شيء من أشياء العالم الموضوعي، وإنما يُحيلنا إلى شيء موجود في العالم الاجتماعي المشترك أو في عالمه الذاتي الخاص به.»٣٧أراد هابرماس وضع نظرية تحافظ على الالتزام بقيم الحقيقة والنقد والإجماع العقلي، ولكنها مع ذلك تؤكد ثقتها بإمكان التوصل إلى موقف لغوي مثالي، أي إلى مجال عام للمناقشة أو الحوار الحر الخالي من كل قمع. والتحرر الحقيقي يكون في «العودة إلى البراكسيس (الممارسة) كمقولة متضمنة في المشاركة الفعالة لكل فرد في التحكم في الظاهرة الاجتماعية، بمعنى آخر أن يكون الناس ذوات وليسوا موضوعات، ولهذا الغرض يجب، في رأي هابرماس، تحسين الاتصال الإنساني والمناقشة الحرة»،٣٨ فعندما تقوم الذات (أو الأنا) بفعل من أفعال الكلام، وعندما تتخذ ذات أخرى (أو الآخر) موقفًا من هذا الفعل، فإنهما — أي الأنا والآخر — يعترف كلٌّ منهما بالآخر وينسجان أو يقيمان علاقة تواصلية بين الذوات الذين دمجوا اجتماعيًّا عبر التواصل، وهي علاقة مختلفة عن تلك الموجودة بينهم وبين العالم المادي.لقد حاول هابرماس استخلاص المحتوى المعياري لفكرة الفهم الموجودة في اللغة والتواصل، وأدى هذا إلى مفهوم مركب لا يتضمن فحسب أن نفهم معنى الأفعال الكلامية، بل يتضمن كذلك التفاهم المتبادل بين المشاركين في التواصل، ليس فقط التفاهم حول معرفة تخص أمرًا ما في العالم الموضوعي، بل تخص الوقائع والمعايير أيضًا، وكذلك التجارب الشخصية: «إن المتحدث في كل فعل من أفعال كلامه يرجع في آنٍ واحد إلى شيء ما يخص العالم الموضوعي وعالم الطائفة الاجتماعية، وإلى عالمه الذاتي»،٣٩ فهذا النموذج من الفعل التواصلي «يفترض أن المشاركين في التفاعل يمكن أن يعبئوا إمكاناتهم العقلية — التي تتركز وفقًا للتحليل السابق في العلاقات الثلاث للقائم بفعل التواصل بالعالم — بحيث يكون ذلك معبرًا عن الرغبة الصريحة في التوصل إلى التفاهم.»٤٠لكن ماذا يعني هابرماس على وجه التحديد بالتفاهم؟ أنه ذلك الاتفاق الحادث بين المشاركين في عملية التواصل، بمعنى أن يُحيل التفاهم إلى اتفاق مبرر عقليًّا بين الذوات القادرة على الكلام والفعل للوصول إلى إجماع، ولتحقيق هذا الغرض يكون للفهم «مستويات ثلاثة يكون على كل مشارك في التفاعل أن يحترمها لتحقيق غرض الفهم؛ ولهذا فإن المستمع يفهم التعبير أولًا، أي يُدرك دلالة ما يقال، ثم يتخذ هذا المستمع موقفًا بالإيجاب أو بالسلب، بالقياس إلى ادعاء معلن من فعل الكلام ثانيًا، أي أنه يقبل أو يرفض العرض الذي يقترحه فعل الكلام. ونتيجة اتفاق ما يوجه المستمع فعله حسب المتطلبات القائمة بشكل توافقي ثالثًا.»٤١ وبهذا المعنى لن يتحقق الفهم إلا بتوافر مستويات ثلاثة أو اتباع خطوات ثلاث وهي أولًا أن يفهم المستمع التعبير فهمًا جيدًا ويدرك دلالته، ثانيًا أن يتخذ موقفًا إيجابيًّا أو سلبيًّا من هذا التعبير، أي يقبل أو يرفض ما تقترحه أفعال الكلام — بالمعنى السابق شرحه — وهو القول الذي لا يصف أو يُثبت واقعًا، بل يتطلب إنجاز فعل ما عند سماعه. ثم ثالثًا وأخيرًا يقوم المستمع بإنجاز الفعل بشكل يتوافق مع فعل الكلام.إن مفتاح فكرة هابرماس عن التوصل إلى التفاهم تنطوي على اتفاق يقاس بما سماه بمزاعم الصدق Validity Claims، ففي الفعل التواصلي «تتوقف حصيلة التفاعل نفسه على إمكانية توصل المشاركين فيه إلى اتفاق فيما بينهم على تقييم مشترك لعلاقاتهم، وحسب هذا النموذج من الفعل، فإن النجاح الوحيد الممكن لتفاعل ما يتمثل في توصل المشاركين إلى إجماع عام بنعم أو لا لمزاعم الصدق المرتكزة على أسس عقلية.»٤٢ يتوقف إذن نجاح الفاعلية التواصلية على أن يتوصل المشاركون إلى اتفاق متبادل حول تحديد علاقتهم بالعالم. ونموذج نجاح التفاعل هو الوصول إلى إجماع بين مختلف المشاركين على مزاعم الصدق المدعمة بالحجج والبراهين العقلية.لكن ما هي المقاييس التي يجب على أطراف التواصل مراعاتها لتحقيق هذا الهدف؟ أنها — كما حددها هابرماس — الحقيقة والدقة والصدق، أي على المشاركين في التفاعل توخِّي حقيقة العبارة ودقتها وصدقها واستنادها إلى الحجج والبراهين العقلية. وإذن فبإمكانية الوصول إلى التفاهم تكمن في «إمكان استخدام الأسباب أو الحجج التي تساعد على الحصول على اعتراف الذوات فيما بينها Intersubjective بمزاعم أو مطالب الصدق القابلة للنقد»،٤٣ هذا الإمكان موجود في الأبعاد الثلاثة السابقة، وليست مزاعم الصدق أو مطالبة مقصورة فحسب على صدق القضايا أو على فاعلية الوسائل التي تمكن من التوصل إلى نتائج يمكن نقدُها، والدفاع عنها بأسباب عقلية، بل يضاف إلى هذا أيضًا المطلب القائل بأنه فعل صحيح أو ملائم، وذلك في علاقته بسياق معياري معين، أو أن مثل هذا السياق يستحق أن يعترف به كسياق مشروع. كلُّ هذا يمكن أن يناقش بالحجج العقلية، بل يمكن أيضًا أن يناقش المطلب الذي يلحُّ على أن أية عبارة من العبارات هي تعبير صادق وأصيل عن تجارب الفرد الذاتية من عكس ذلك. والشاهد أنه في كل هذه الأبعاد يمكنه الوصول إلى اتفاق حول المطالب المختلف عليها عن طريق الحجة والاستبصار أو البصيرة، وبغير الرجوع إلى القوة والبطش، أي بالرجوع إلى الأسباب والحجج العقلية وحدها. وفي كل بُعد من هذه الأبعاد الثلاثة يوجد ثمة وسط تأملي يُتيح معالجة أساليب الحجاج العقلي أو النقد التي تساعدنا على إثبات صحة المزاعم المختلف عليها، ومحاولة الدفاع عنها، أو حتى نقدها، ولأن مزاعم الصدق يمكن أن تنتقد، فهناك إمكانية لتصحيح الأخطاء والتعلم منها. ومن الطبيعي أن تخضع هذه المزاعم للاختبار والنقد والمراجعة. وهناك طرق عديدة لمناقشة وتنفيذ هذه المزاعم: «إن المعقولية التي تميز الممارسة التواصلية في الحياة اليومية إنما تشير أو تحيل إلى ممارسة الحجاج العقلي، وكأنه هو محكمة الاستئناف التي تمكن من استمرار الفعل التواصلي بوسائل أخرى عندما يصل الاختلاف في الآراء إلى حدٍّ لا يمكن تجاوزه عن طريق الأساليب الروتينية، بل لا يمكن أيضًا فضُّه (أي الاختلاف) عن طريق الاستخدام المباشر أو الاستراتيجي للقوة.»٤٤
خاتمة
كان هذا عرضًا سريعًا للمفاهيم الأساسية لنظرية الفعل التواصلي عند هابرماس بالقدر الذي سمحت به حدود هذا البحث. وإذا كان يصعب الإحاطة — في هذا المقام — بالجوانب التفصيلية الدقيقة لهذا المشروع الذي يحتاج إلى دراسة طويلة مستفيضة، فإن الأمر الأكثر صعوبة هو محاولة تقييمه، خاصة وأن صاحبه ما زال يواصل العطاء، مما يعني أن هذا المشروع يمكن الإضافة إليه، كما أنه يقبل التعديل أو التغيير، أي أنه بمعنى آخر مشروع ما زال في طور التطور والاكتمال، كما أقر هابرماس نفسه في بداية المجلد الأول من مؤلفه أنه لم يقدم نظرية نهائية أو تامة بشكل كامل، مما يعني أنه قدَّم فقط إطارًا نظريًّا، وتوجهات أساسية للانتقال من فلسفة الوعي إلى فلسفة التواصل هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكن أن نقول إن نظرية الفعل التواصلي ليست نظرية بعدية، بل هي نظرية اجتماعية تحاول أن تصحح مقاييسها النقدية. يضاف إلى هذا أن هابرماس من أكثر الفلاسفة المعاصرين الذين تُثار حولهم الخلافات، لكل هذه الأسباب يصعب تقييم هذا المشروع تقييمًا نهائيًّا، كما يصعب أيضًا الحكم عليه بآراء قاطعة، ولكن يمكن إجمال بعض وجهات النظر حول هذا المشروع الضخم.يرى بعض الباحثين أن هابرماس اهتم بالتعليق النقدي على معظم الفلاسفة وعلماء الاجتماع أكثر من اهتمامه بتقديم الأدوات المنهجية والنظرية الخاصة بنظريته عن الفعل التواصلي،٥٣ وإذا كان هذا النقد صحيحًا في مجمله، إلا أنه أثبت في نفس الوقت قدرة هابرماس الهائلة على عرض وتقديم وتحليل نظريات وأفكار الآخرين. كما أن اهتمامه — أي هابرماس — بالتواصل والنظرية الاجتماعية للحقيقة جعل بعض الباحثين يذهب إلى أن نظريته تحتوي على بُعد يوتوبي واضح؛ إذ إنه — أي هابرماس — يُحيل في الغالب إلى مشروع أكثر مما يشير إلى واقع بعينه، ويتحدث عن أخلاق يتطلع أن تصاغ في معايير وعلاقات.٥٤ وربما كان هذا أيضًا صحيحًا إلى حدٍّ كبير؛ فالشروط التي وضعها هابرماس للحوار، والأخلاقيات التي رأى ضرورة الالتزام بها في النشاط التواصلي، والمعايير التي يجب أن تخضع لها أفعال التواصل، كل هذا أضفى على مشروعه بُعدًا يوتوبيًّا من ناحية، وبُعدًا مثاليًّا من ناحية أخرى، وإن كان هذا البعد اليوتوبي لم يحصر المشروع في دائرة المستحيل، أو عدم قابليته للتحقق، بل إن ملامسته للواقع المعيش تجعله في دائرة الممكن.
وعلى الرغم من اختلاف المفسرين اختلافًا كبيرًا في آرائهم حول مشروع هابرماس ومدى قدرته على الصمود في وجه الشكوك الكثيرة التي تُثار حوله، إلا أن هناك شيئًا واحدًا على الأقل يتفق عليه المعلقون والشراح، وهو أن هابرماس قد حاول على الدوام أن يجمع بين هذه الاهتمامات الفلسفية المتخصصة وبين التزام حقيقي فعال بتنمية أو تدعيم المناقشة المستنيرة للقضايا الملحَّة بالنسبة للرأي العام، ولعله أن يكون أحد الفلاسفة القليلين الذين يلتزمون بالتمسك بالتراث النقدي في البحث المبدئي عن الحقيقة، وهو في هذا كلِّه يقدم مثلًا رائدًا للفكر المستنير.
وربما ترجع أهمية الدور الذي يقوم به هابرماس في الفكر الفلسفي المعاصر إلى أنه ما زال متمسكًا بدور الفلسفة، وإعادة توظيفها، وضرورة انخراطها في أي نظرية للمجتمع الحديث. هذا إلى جانب إيمانه بأن مشروع الحداثة لم يكتمل بعد، وتمسكه بإعادة الطاقة النقدية لعقل التنوير في عصر ارتفعت فيه الأصوات مطالبةً بتخلي الفلسفة عن عرشها والعقل عن صولجانه، إلى جانب تيارات أخرى مضادة للتنوير والحداثة، ومن ثَم وقف هابرماس مدافعًا عن التنوير، وتصدَّى للظواهر المرضية التي ولدتها الحداثة وما بعد الحداثة، وربما لهذا السبب أيضًا يحتاج الفكر العربي إلى دراسة هذا المشروع الفلسفي الكبير بشيء من التفصيل، وإلقاء المزيد من الضوء على جوانبه المختلفة من أجل تأسيس مجتمع يقوم على أسس عقلانية، ويسود بين أعضائه حوارٌ حرٌّ خالٍ من كل أشكال القمع والسيطرة، وإذا كان هابرماس يرى أن شروط الحوار الديمقراطي الحر لم تتوافر بعد في المجتمعات الغربية بكل ما تكفله هذه المجتمعات لأفرادها من حريات، وبقدر ما تسمح من مراجعات نقدية للتراث العقلي والديني، ولكل جوانب المجتمع والحياة على أوسع نطاق، فما أحوجنا نحن العرب إلى التفكير في هذه الشروط، وإلى صياغة مشروع للحداثة يقوم على أسس عقلانية ونقدية وليست غيبية أو خرافية متسلطة.
*هنداوي للنشر