إدغار موران: الفرد أولاً أم المجتمع؟
يعد الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران (1921) واحدًا من كبار المفكرين الشموليين الذين تناولوا مختلف مشاكل العصر، بروح نقدية إصلاحية. وهو يكرر دائمًا أننا نسير باتجاه الهاوية إذا لم نغير في الأسس التي بنيت عليها الدول والاقتصاد والتعليم والعلم الحديث، لأن علة عصرنا وأمراضه الاجتماعية والاقتصادية تعود أساسًا إلى أن الدول الحديثة تنظم المجتمعات بشكل جيد ولكنها حوّلت نفسها أيضًا إلى أداة للتسلط والظلم، وأن العلم الحديث حقق قفزات نوعية كبيرة وساعده على حل كثير من مشاكلنا، ولكنه أصبح أيضًا من أكثر الأدوات خطرًا على حياة الشر، خاصة بعد اقترانه بالتكنولوجيا الحديثة وصناعة الأسلحة النووية. أما الاقتصاد العالمي فهو مزدهر ولكن أعداد الفقراء تزداد بشكل غير مسبوق أيضًا.
وتعود قساوة نقد موران لحضارتنا المعاصرة إلى اعتقاده بأنه وعلى الرغم من التقدم الذي حصل في تنظيم المجتمعات الحديثة، إلا أن التفكك الاجتماعي ومشاكل المراهقين وصراع الأجيال وصل إلى مستويات غير مسبوقة. وعلى الرغم من أن النظام العالمي الجديد حقق استقرارًا مقبولًا إلا أن الصراعات والحروب تنتشر انتشار النار في الهشيم. ومثلما هناك نمو كبير في الاقتصادي العالمي إلا أن الأزمات الاقتصادية تطل برأسها من حين لآخر مخلّفة حالة من عدم الاستقرار العالمي.
مخاوف موران هذه تعود أساسًا إلى ملاحظته بأن ما يسميه بـ «أساطير الحداثة الثلاث»، وهي أسطورة أن التقدم العلمي سيجلب السعادة للجميع، وأسطورة أن الإنسان سيتحكم بالكون بشكل كامل، وأسطورة أن التاريخ يتقدم بالضرورة نحو الأفضل، أخذت بالتلاشي شيئًا فشيئًا. فالتقدم العلمي اليوم أصبح بيد الدول الكبرى التي تتحكم به وتستغله ضد من يخالفها، مثلما أن الإنسان المعاصر لم يعد قادرًا على التحكم بالكون والدليل على ذلك جائحة «كورونا» التي أودت بحياة ملايين البشر. أما السعادة فقد ضاعت وسط الإحصاءات التي تشير إلى الارتفاع الرهيب في أعداد الناس الذين يعيشون في عزلة وبؤس، فضلًا عن تراجع التضامن الاجتماعي والشعور بالمسؤولية الأخلاقية.
أما سبب تلك الأزمات فهو أن العالم لا يسير إلى التقدم والسلام والرخاء بالضرورة، كما يعتقد غالبية البشر، لأن هناك «صراعات» كبرى هي التي تحرك هذا العالم: الصراعات الاقتصادية العالمية، الصراع بين الدولة والفرد، الصراع بين الفرد والمجتمع، صراع الهويات والقوميات، الصراعات بين الدول، تنمر الدول الدكتاتورية على شعوبها. وعلى ذلك، إذا لم يعرف الإنسان المعاصر كيف يدير تلك الصراعات ويسخرها لخدمة مصالحه الكبرى فإن المستقبل سيبقى غامضًا، ولا يمكن لأي عالم من علماء المستقبليات أن يتكهن بما سيكون عليه الكون بعد عدة عقود من الزمن.
إحدى أهم طرق اكتشاف الصراعات داخل المجتمعات عند موران هي «تحليل المفاهيم»، وذلك لاكتشاف التناقضات داخلها، فهو يحلل مفهوم «الحرية الفردية» – مثلاً – لدى الغرب ليجد أنه وعلى الرغم من أن تلك الحرية قد جلبت الحياة المستقلة واحترمت الخصوصيات وحدّت من استغلال البشر لبعضهم، إلا أنها جلبت للإنسان الغربي العزلة والتفكك الأسري أيضًا، مثلما جعلته أكثر أنانية وكائنًا باردًا اجتماعيًا. وعندما يحلل مفهوم «المساواة» الذي يُعدّ أحد أعمدة الحداثة الثلاثة (الحرية، المساواة، التآخي)، يجد أن العالم الغربي يريدها لنفسه وشعوبه ولكنه لا يريدها للشعوب الأخرى. ولذلك يتوصل في النهاية إلى أنه لا بد من إعادة التفكير في «البديهيات» التي تربيّنا عليها وتعلمناها في المدارس والجامعات لكي نواجه أزمة «الوجود الإنساني» حيث الحياة الاجتماعية تفتقر إلى الحب والتضامن والشعور بالمسؤولية، وحيث يعاني الفرد من الوحدة والضغوط النفسية و«القلق العام» والشعور بالريبة من كل ما يحيط به، وحيث معاناة الفئات المهمّشة مستمرة. وموران يعطي تلك المشكلات أولوية في تفكيره لأنه لا يعتبرها هامشية فهو يكرر دائمًا أن مشاكل العوائل والمراهقين والمهمّشين وسكان الأرياف والمدن تحمل في داخلهم بشكل مركّز «مشاكل حضاراتنا».
العلاقة المركبة بين الفرد والمجتمع
في تحليله لعلاقة الفرد بالمجتمع يقف موران ضد النزعة الفردية الغربية المفرطة التي تحوّل المجتمع إلى مجرد خادم للفرد وحام لحرياته الشخصية، دون أي تقدير لدور المجتمع وقيمه. غير أن موران أيضًا ضد النزعة الجماعية التي تبالغ في احترام وتبجيل المجتمع، ودعم سيطرته على الأفراد بشكل كامل لينتهي إلى أن للفرد حريات يجب أن ينالها كاملة، وحياة خاصة يجب أن تحترم، ولكن للمجتمع أيضًا دورًا ومكانة يجب أن يكونا حاضرين في الحياة العامة ولكن كيف يتم ذلك؟
مشكلة الفردية المفرطة أنها أوقعت الفرد المعاصر في الأنانية والتمركز حول الذات ومتطلباتها. حتى أن الفرد المعاصر أصبح لا يفكر سوى بنفسه وحاجاته ومستوى معيشته. وهذا أدى بدوره إلى ارتفاع «قلق العيش» لدى الناس، والذي يعني التفكير الدائم برفع مستوى المعيشة وترفيه الذات إلى أقصى درجة ممكنة. أما أهم مشكلة تسببت بها الفردية المفرطة فهي تراجع شعور الأفراد بالمسؤولية تجاه مجتمعاتهم، وضمور الحياة الاجتماعية، فضلًا عن تراجع الأخلاق العامة.
أما مشكلة المجتمع، الذي شكّل على مدى التاريخ «كيانًا مستقلاً» عن الفرد، فتعود إلى أنه يحاول فرض مصالحه ومعاييره على الفرد بشكل شبه قسري. فمع الأيام أصبحت للمجتمعات حسابات ومصالح لا تتوافق مع مصالح الأفراد وحساباتهم، لأن المجتمع في النهاية لا يهتم بمصالح أفراده بقدر ما يهتم بمصالح الفئات ذات النفوذ والمكانة التي تتحكّم به. وبالتالي كثيرًا ما تحول هذا المجتمع إلى أداة لتجاهل مصالح الأفراد وحقوقهم. ولذلك يرى موران أن العلاقة بين الفرد والمجتمع على مدى التاريخ هي علاقة «صراع دائم»، يحاول من خلالها المجتمع الهيمنة على الفرد، ويحاول الفرد من خلالها مواجهة المجتمع وسطوة الفئات التي تديره.
ومع ترسخ دور الدولة الحديثة يبدو أن موازين القوة أصبحت تميل لصالح المجتمع أكثر. فالدول اليوم تدعم المجتمع وتستخدمه لضبط الأفراد، مثلما أن قدرة المجتمع على تنظيم نفسه أصبحت أكثر مرونة. ولذلك يعتقد موران أن المجتمع أقوى من الفرد وعمره أطول، لأن الأفراد يموتون، ولكن المجتمع يبقى على قيد الحياة، يجدد قوته ويعيد تأهيل نفسه. ولذلك يصف موران المجتمع بأنه «وحش عملاق»، وهو تشبيه يستعيره من الفيلسوف البريطاني هوبز.
دور الهوية في المجتمعات الحديثة
أما أكثر وسيلتين يحاول من خلالهما المجتمع أن يسيطر على الأفراد ويحدّ من حرياتهم ومصالحهم فهما: الشعور بالانتماء إلى الهويّة والنزعة الاستهلاكية.
تعود قضية الهويّة ودورها في العلاقة بين الفرد والمجتمع إلى سبب بسيط وهو أن كل هويّة تحمل في داخلها ميولًا تساعد المجتمع في السيطرة على الفرد والتحكّم بحرياته الخاصة. وتتعقد المشكلة إذا علمنا أن غالبية الدول تميل إلى السيطرة على الأفراد من خلال المجتمع، مستغلة حاجات الإنسان النفسية والثقافية والروحية إلى الانتماء إلى هويّة يشعر بها.
حتى أن غالبية الدول الدكتاتورية تستثمر في تأجيج الهويّات لفرض هيمنتها على الأفراد والتحكّم بهم، ويعود ذلك الاستثمار في تأجيج الهويّات الاجتماعية والثقافية والدينية إلى أن إمكانية تحكّم السياسيين والحكّام بالمجال العام تصبح أكبر، وقدرتهم على توجيه الناس تصبح أسهل، لأن الخوف على الهويّة يدفع الأفراد إلى تقديم تنازلات لصالح الدولة، التي توهمهم على أية حال بأنها حامية لهوياتهم.
ومع ظهور الدولة الحديثة، ولا سيما دولة الأمة في أوربا الحديثة، ارتفعت وتيرة تسخير الانتماء للهويّة من أجل فرض طاعة الفرد للمجتمع. حتى أن تلك الدول بالغت في الربط بين وجود الفرد من جهة وبين تفانيه في خدمة وطنه من جهة ثانية، أي تحويل وجود الفرد إلى مسألة تابعة للوطن. وهو الأمر الذي جعل شعوبًا بأكملها تتحول إلى آلةٍ تخدم الفئات المتحكّمة بالوطن، وهي راضية، متوهمةً أنها بذلك تخدم أوطانها. لدرجة أن موران يحّمل مسألة تأجيج الهويات مسؤولية جر البشرية إلى حروب وصراعات دموية ذهب ضحيتها ملايين البشر.
المشكلة تتعقد اليوم لأن العالم المعاصر يشهد تحالف دول كبرى عبر العولمة، وأن هذه العولمة كثيرًا ما تلجأ، بحكم طبيعتها، إلى إغراق الأفراد في نزعة استهلاكية مفرطة، تجعل من الفرد مستلبًا لحياته المادية وتأمين حاجته المتنامية، وبالتالي يصبح وضع الفرد ضعيفًا، مرة أخرى، لأن المتحكّم به هنا المجتمع والدولة أيضًا، ولكن هذه المرة عن طريق الشركات التجارية الكبرى ووسائل الإعلام.
ولكن، إذا كانت الدول الديكتاتورية تستخدم تأجيج الهويّات كوسيلة لكي تفرض سيطرتها على شعوبها، فإن الدول الديمقراطية اليوم، في زمن ما بعد الحداثية، لا تهتم كثيرًا بالاستثمار في الهويّات، بقدر ما تهتم بتحويل الفرد إلى «كائن استهلاكي». ومن المعروف أن أهم صفة من صفات المجتمعات الاستهلاكية أنها تبعد الإنسان عن انتماءاته وهويّاته وتنوعه الثقافي، وتختزل حياته إلى العيش في عالم الماديات.
وهذا يعني، بالنسبة لموران، أن معالجة قضية الهويّة تتم بطرق مختلفة، بحيث علينا أن نعمل على تخفيف حِدّة المبالغة في التركيز على الهويّات في المجتمعات التي تسيطر عليها الأنظمة الديكتاتورية من جهة، والعمل على تجذير الانتماء إلى الهويّة في المجتمعات التي تسيطر عليها الأنظمة الديمقراطية.
وهنا يطرح موران مفهوم «الهوية الإنسانية» الذي يمكن من خلاله أن يحتفظ الأفراد بهوياتهم الوطنية والدينية والقبلية، ولكن أن تكون تلك الهويات ضمن أفق إنساني، بعيدًا عن التعصب والعنصرية وتأجيج مشاعر الفوقية، لأن البشر في النهاية يشكلون أسرة كونية واحدة، وأن اختلافهم في الهويات والثقافات يجب أن يكون عامل إغناء وليس عامل صراع.
المجتمع أقوى ولكن الأفراد هم الأساس
على الرغم من أن الصورة السابقة للعلاقة بين الأفراد والمجتمعات تعطي الدور الأكبر للمجتمع، وكذلك للدولة التي تقف من ورائه، إلا أن موران يعتقد أن دفة العلاقة يديرها الفرد وليس المجتمع في نهاية المطاف. وهو يلتقي في هذه الفكرة مع أعلام مدرسة فرانكفورت الذين بدورهم يحذرون من التهام الدولة المعاصرة للإنسان المدني الحديث، ولكنهم يعتقدون أن الإنسان قادر على مواجهة تلك الدولة، والقوى الاقتصادية الكبرى التي تقف من ورائها.
ولذلك فإن موران مؤمن بأن للفرد أيضًا عناصر قوة يستطيع من خلالها أن يقاوم الدولة والمجتمع. وأول هذه العناصر هو «الوعي» لأن الإنسان، في النهاية، هو مركز الوعي داخل المجتمع، ومن أجل المجتمع. غير أن مشكلة الإنسان أنه لا يفكر في أوضاعه ومصائبه إلا في وقت متأخر ذلك أن علاقة الفرد بالمجتمع هي علاقة تداخل وتضاد وتكامل في الوقت نفسه. والتداخل يعني أن الفرد يعيش داخل المجتمع، ولكن المجتمع يعيش أيضًا داخل الفرد، بحيث يكون لدى الفرد حرية فردية تجاه المجتمع لكن المجتمع يشكل أيضًا كلًا منظمًا تؤثر خصائصه المنبثقة رجعيًا في الفرد. وبذلك «ينتج الأفراد المجتمع الذي بدوره ينتج الأفراد» أما بالنسبة للتضاد فيعني أن المجتمع يقمع اندفاعات ورغبات وآمال الفرد التي تميل بدورها إلى مقاومة ضغوط المجتمع وممنوعاته. وفيما يتعلق بالتكاملية فتعني أن علاقة الفرد والمجتمع علاقة «مزدوجة»، هي في حقيقتها جمعية وتنافسية، بمعنى أن الأفراد يتنافسون مع المجتمع مثلما تتصارع المصالح، ولكن المجتمع أيضًا يجمعهم، ولا سيما وقت الحروب ونائبات الدهر. هكذا لا يميل موران إلى إلغاء طرف لحساب آخر، لأنه يعتقد أن كل طرف بحاجة إلى الآخر، ولذلك نجده يجاهد في إقامة نوع من التوازن بين طرفي المعادلة، مع إعطاء المبادرة للأفراد لأن المجتمع هو الأقوى في النهاية.
لا بديل عن العودة إلى قيم الحداثة
حل كل تلك المشاكل الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تحدثنا عنها لا يتم – بحسب موران – إلا بالعودة إلى قيم الحداثة الثلاث ( الحرية، المساواة، التآخي)، وإعادة الاعتبار لكونية حقوق الإنسان، وهذا يعني من جملة ما يعني أن على الدول أن تعلي من شأن أوطانها وخصوصياتها ولكن بنفس الوقت لا تسمح لهذا الإعلاء بأن يتحول إلى «انغلاق وطني» وعنصرية ضد الغير. وبنفس الوقت على تلك الدول أن تُعلي من شعورها بـالمسؤولية الأخلاقية تجاه شعوبها من جهة، وتجاه «أزماتنا الكونية» من جهة ثانية. مثلما يعني أن لا غنى للأفراد عن المجتمعات، ولكن العلاقة يجب أن تقوم على الاحترام المتبادل للحقوق والحريات والخصوصيات الثقافية، وأن يعمل الأفراد على تخفيف تسلط الفئات المتنفذة على المجتمع، تلك الفئات التي لا تتوانى عن تسخير المجتمع من أجل خدمة مصالحها.
*مجلة العربي