من الثورة إلى أحداث 25 جويلية: إلى أين تسير تونس؟
سناء جهيناوي – مجلة الوعي السياسي
فيما استبشر عدد مهمّ من التونسيّين بالإجراءات الاستثنائية التي اتّخذها الرئيس التونسي قيس سعيّد تماشيًا مع قراءته للفصل الثمانين من الدستور واعتبروا ذلك الأمر بمثابة إطلاق رصاصة الرحمة على مرحلة ما بعد 2011، يقف فريق على الطرف الآخر معبّرًا عن توجّسه من مآل تجربة الانتقال الديمقراطي، خصوصًا وأنَّ الوضع التونسي على سوءه لم يسقط في منزلقات أخرى دمويّة على غرار بعض الدول العربيّة.
سعيّد بدا وكأنّه يمحو مسارًا بأكمله، ويكتب تاريخ الثورة من جديد، وكأنّ الثورة انطلقت فعليًا مع الذكرى الرابعة والستين لإعلان الجمهورية التونسيّة، فهل تواجه تونس فعلاً خطر العودة إلى الوراء أي إلى حكم استبدادي! أو أنّه من المبكّر جدًّا الجزم بمدى حدوث هذا الأمر من عدمه، خاصّة مع التزام قيس سعيّد بعدم المساس بمكتسبات الثورة ووضع سقف زمني للظروف الاستثنائيّة؟
المبادرة التي قام بها الرئيس التونسي، سواءً اتفقنا معها أم لم نتفق، لم تأتِ حتمًا بمحض الصدفة، إذ شهدت تونس خلال العشريّة الأخيرة عدّة أزمات سياسيّة، أدّت إلى ركود اقتصادي كبير، وتردّي في الأوضاع الاجتماعية، الأمر الذي جعل عددًا مهمًّا من التونسيّين يبحثون عن مخرج يؤمِّن لهم طريق العبور نحو غد أفضل ولو تطلّب الأمر المقايضة بأبرز مكسب للثورة؛ الحريّات الفرديّة والجماعيّة.
لقد فشلت منظومة الحكم السابقة في إدارة شؤون البلاد، إذ تعاقبت على تونس منذ الثورة عدّة حكومات دون أن تنجز شيئًا يذكر على أرض الواقع، فلقد تصدّعت الأحزاب السياسية وضعف أدائها، والتوافقات الهشّة القائمة على مصالح ضيّقة أدّت إلى إحداث تعطّل في مؤسسات الدولة، ووصل الأمر في أكثر من مرّة إلى قطيعة علنيّة بين رأسي السلطة التنفيذية.
في ظلّ تتابع الأزمات وخاصّة امتدادها نحو قبّة البرلمان الذي أصبح ينظر إليه التونسيّون كساحة وغى بين الفرقاء السياسيين ويتحمّل العبء الأكبر فيما وصلت إليه الأوضاع العامة من تأزم، ونضيف إلى هذا كلّه، هيئات مستقلّة تشتغل بميزانيات ضخمة دون أن تتمتّع بسلطة تنفيذية، وإدارة مأزومة غير قادرة على تقديم خدمات بسيطة للمواطن التونسي بطريقة سلسة وفعّالة، وقد أدّى كل ذلك إلى تنامي ظاهرة الفساد السياسي وتكريس سياسة الإفلات من العقاب وتوظيف للسلطة القضائية لتصفية حسابات سياسيّة.
لقد عجزت الحكومات المتعاقبة عن تحقيق التنمية وتفعيل “ماكينة” الإنتاج والتصدير، وطالما ما تحجّجت بتراكمات مرحلة بن علي مخلية نفسها من كلّ مسؤولية عن الخيارات الكبرى الخاطئة ومواصلة إنتاج الفشل.
فشلٌ تترجمه الأرقام، فمثلاً أعلنت وزارة المالية نهاية العام الماضي أنّ الدين العام المستحق على البلاد ارتفع إلى حوالي 102.2 مليار دينار تعادل 81.5 من الناتج المحلّي الإجمالي بزيادة 12 %. مقارنة مع الفترة نفسها من سنة 2020. هذا إضافة إلى إرتفاع نسبة التضخّم لتصل إلى 6.6% في ديسمبر الماضي.
وهو ما أثرّ سلبًا على توفرّ المواد الغذائيّة وخاصة الأساسيّة منها وارتفاع أسعارها بشكل مشطّ، ولعلّ هذا أكثر ما يقلق عموم التونسيين، خاصة مع تفاقم مشاكل الفقر وارتفاع معدّلات البطالة، وتآكل الطبقة الوسطى التي كانت تشكلّ سابقًا غالبية المجتمع التونسي، وهذا ما أدّى منطقيًا إلى انهيار كبير في الأوضاع الاجتماعيّة، من ذلك ارتفاع نسبة الجريمة والهجرة الغير نظامية نحو سواحل إيطاليا، بالإضافة إلى والاحتجاجات والاعتصامات.
عمومًا، لم يكن التونسيّون راضين عن مرحلة ما بعد 14 جانفي وعبّروا في أكثر من مناسبة عن سخطهم ودعوتهم لإصلاح الأوضاع ولو تطلّب الأمر الذهاب نحو خيارات دكتاتورية، التقط قيس سعيّد الكرة بعناية وأعلن يوم الخامس والعشرين من شهر جويلية الماضي عن تفعيله للفصل الثمانين من الدستور نظرا للخطر الداهم الذي تواجهه البلاد، وهنا نشير إلى مواطن الضعف الكبيرة في دستور 2014. على عكس المشرّع الفرنسي مثلاً الذي عرّف حالة الخطر، استعمل المشرّع التونسي عبارة عامة وفضفاضة فاسحًا المجال لتأويلات قانونية عديدة.
سعيّد وباعتباره صاحب السلطة التقديريّة لوحده في ظلّ غياب المحكمة الدستورية التي من المفترض أن تتشكل سنة 2015 كأقصى تقدير، ضرب بعرض الحائط كلّ القراءات القانونيّة الأخرى، واتخذ في شهر سبتمبر إجراءات استثنائية، قاطعًا بذلك كلّ سبل العودة إلى ما قبل الخامس والعشرين من جويلية. فيما يعتبر مخالفوه أنّ ما قام به سعيّد يعدّ انقلابا على الشرعيّة الانتخابيّة والدستوريّة، يرى الرئيس التونسي أنّ ما قام به تصحيحًا مسار منظومة متآكلة ولم تعد تصلح لإدارة شؤون التونسيين.
وكأنّ الإنتقال الديمقراطي حسب سعيّد يعيد ترتيب نفسه بشكل جديد بداية من التحرّر من النظام السابق عبر تفكيك المنظومة الدستوريّة والقانونيّة والمؤسساتيّة القديمة، من ذلك تعليق عمل المجلس النيابي والذهاب نحو إعادة صياغة دستور الجمهورية الرابعة والتشريع لقانون انتخابي جديد، بالتالي التأسيس لنظام جديد من المفروض أن يكون “ديمقراطيًا” ليس بالضرورة على المنوال الليبرالي الأمريكي، بل ديمقراطيًا يستمد مشروعيته من الشعب مباشرة، دون أي وسائط تمثيلية، كما يرى سعيّد من خلال تثمينه لنجاح الاستشارة الوطنية، التي يراها عديدون أنها تجسيد” لعدالة المنتصر و مشروعية رجل المرحلة.. ” وتأكيده المستمر على أنّ الحوار سيكون مع الشعب مباشرة ممّا أثار حفيظة منظّمات حقوقيّة وعماليّة على رأسها الاتحاد العام التونسي للشغل الذي استنكر عدم اشراكه في اتخاذ القرارات السياسيّة الكبرى، وأبدت تخوّفها من إنهاء التعدديّة السياسيّة والتضييق على نشاط المجتمع المدني.
سعيّد من جانبه دائمًا ما يكرّر التزامه بعدم المساس من الحريّات والحفاظ على النظام الديمقراطي، لكن خطاب الطمأنة لم يقنع عددًا من التونسيّين.
تخوّفات يردّد أصحابها أنّها منسجمة مع الواقع المعيش، من ذلك حادثة إيقاف صحفي عامل بإذاعة تونسيّة ومطالبته الكشف عن مصادره في مخالفة صريحة للمرسوم عدد 15 لسنة 2011 والمتعلق بحرية الصحافة والطباعة والنشر والذي يضمن حق الصحفيين في حماية مصادرهم وعدم الكشف عنها.
هذا إلى جانب تلويح قيس سعيد بمراجعة المرسوم المنظِّم لعمل الجمعيات وما سيترتب عن ذلك من تضييق على نشاطها، تضييق يراه البعض على أنّه خطوة إيجابية نحو القطع مع التمويلات المشبوهة، فيما يرى فيه آخرون انتكاسة للعمل الجمعياتي وارتداد على مكاسب الثورة ومبشرًا بمرحلة استبدادية.
بعيدا عن الجزم بما ستؤول إليه الأوضاع مستقبلا؛ لا أعتقد أنّ الوضع السياسي في تونس سيذهب نحو سيناريو شبيه بمصر السيسي أو جزائر العشرية السوداء، ومن المتوقع أنّ الضغط الذي تمارسه مكوّنات المجتمع المدني وخاصة الوازنة منها؛ يمكن أن يخلق نوعًا من التوازن ويمنع كلّ نيّة للرجوع بالبلاد إلى ما قبل 2011. وذلك مرهون بتحسن الأوضاع الاقتصاديّة الاجتماعيّة، فالديمقراطية السياسيّة التي لا تقترن بنهضة اقتصاديّة وتحسن الأوضاع المعيشية للمواطنين؛ لا يمكن أن تصمد طويلاً على غرار ما حصل لدى انتصار الفاشية في أوروبا.
إضافة إلى ذلك، لا أتصور أن الشعب التونسي صمّام أمان للديمقراطية، فالشخصية التونسية في أبرزها تبحث دائما عن صورة الأب المخلّص المتسلّط وتؤمن أنّ السفينة لا يقودها إلّا ربّان واحد. وحين يتعلّق الأمر بالاختيار بين مطلبين؛ فالخبز أوّلا وأخيرًا.
سناء جهيناوي – باحثة في الشؤون السياسيّة والقانونيّة من تونس