هل أنّ الشباب جميعه عبقري في المجال الرقمي؟

يقال أنّ الشباب الذي وُلد مع ظهور العصر الرقمي مؤهّل، طبيعيا، لاكتساب المهارات اللّازمة في استخدام التكنولوجيات الجديدة. لكن، بعيدا عن أنماط التّفكير الجاهزة، فإن الواقع أكثر تباينا، إذ ترتبط قدرة المراهقين على التمكّن من هذه الأدوات الجديدة، إلى حدّ بعيد، بالوسط الذي نشأوا فيه وببيئتهم الأسرية.

لقد نشأت الفكرة القائلة بأن شبّان وشابات اليوم هم “أطفال الفضاء الرقمي”، أو digital natives (الجيل الرقمي)، حسب العبارة التي أطلقها، منذ حوالي عشرين عاما، الكاتب الأمريكي مارك برينسكي. كما وقع الحديث عن هذا الشباب على أنّه “جيل النّات” أو “جيل الهاتف الذّكي (السمارتفون)”، في إشارة إلى فئة عمرية تختلف جوهرياً عن سابقاتها بحكم درايتها بالتكنولوجيات. ويُعتقد أن شباب اليوم قادر على القيام بمهام متعدّدة في الآن ذاته، وأن قدرته على التّركيز محدودة، وأنّه يفضّل التّعامل مع الجانب البصري والتّفاعلي. والخلاصة هي ضرورة إحداث تغيير جذري لتكييف المؤسّسات مع هذا الجيل المرتبط، إلى حدّ كبير، بشبكة النات.

بيد أنّ الإشكال يتمثّل في كون هذه الآراء غير مدعومة بما فيه الكفاية من النّاحية العلمية. ومن ثمّ فقد سعى الباحثون إلى معرفة مدى قدرة هذه التّأكيدات على الصّمود أمام التّحليل، فأُجريت، منذ منتصف العشرية الأولى للقرن الحالي، دراسات في جميع أرجاء العالم لرصد كيفية استخدام الشباب للتكنولوجيات سواء في مجال الدّراسة أو في الحياة اليومية.  كما أُنجزت استطلاعات ميدانية واسعة النّطاق لمعرفة نوع الأجهزة التي يملكها هذا الشباب، والتّطبيقات والبرامج التي يستخدمها، وبأيّ وتيرة تُستعمل. وأُجريت دراسات مفصّلة على نطاق أصغر في المدارس ومؤسّسات التّعليم العالي، والمنازل، وداخل المجتمعات المحلية. 

الفجوة الرّقمية

وقد تبيّن أنّ استنتاجات هذه الأعمال تصبّ في نفس الاتّجاه ومفادها أنّ مفهوم “أطفال الفضاء الرّقمي” يبدو مختزلا للغاية إذ أنّ الطريقة التي يستخدم بها الشباب التكنولوجيا الرقميّة مختلفة جدّا، ولم تُثبت المقارنات بين الأجيال أنّ الشباب يتمتّع بميزة متأصّلة فيه أو جبليّة، بل إنّ الأشخاص الأكبر سناً بمقدورهم اكتساب الكفاءة والاستقلالية في هذا المجال، وذلك ما يقومون به فعلا ! 

وعلاوة على ذلك، تؤدّي العوامل الاجتماعية ـ الاقتصادية دوراً رئيسياً في إقدار الشباب على تنمية مهارات تكنولوجية تنسحب على دراسته وعمله وعلاقاته الاجتماعية. مثال ذلك أن دراسة بريطانية، أُجريت في عام 2007 حول 1500 شاب تتراوح أعمارهم بين 9 و19 سنة، بيّنت أن الأُسر ذات الدّخل المرتفع تتمتّع بالنّفاذ إلى الإنترنت بجودة أفضل، بما يتيح استخدام التكنولوجيا على نحو أكثر تواتراً ويوفّر تحكّما أفضل في التكنولوجيا. كما كشفت دراسة أمريكية أُجريت في عام 2008 حول شباب تتراوح أعماره بين 8 و26 سنة أن الذين يتمتّعون بمستوى تعليمي عالٍ يشاركون في أنشطة إلكترونية أكثر إثراءً.

وورد في تقرير لمنظمة التّعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، صادر في عام 2015 تحت عنوان “التّلاميذ والتّكنولوجيات الجديدة(link is external)“، تأكيد لهذه الاتّجاهات حيث يُبيّن هذا التّقرير أن تحسّن شروط النّفاذ المادّي إلى التّكنولوجيات يتيح للشباب المنتمي إلى أوساط اجتماعية محظوظة ممارسة أنشطة على النّات تمكّنهم من اكتساب مهارات أكثر شمولاً وفائدة. وهذا الواقع يكشف “الفجوة الرقميّة” بين من يستخدم التكنولوجيات على نحو فعّال ومن يستخدمها على نحو أضيق.

التخلّص من القوالب النّمطية

ينبغي، إذن، تجنّب التّعميمات والأحكام المسبقة فيما يتعلّق بالشباب والتكنولوجيا. وممّا لا شكّ فيه أن وجود خصائص متّصلة بالأجيال هي فكرة جذّابة، كما لا يمكن إنكار تأثّرنا جميعا بالعصر الذي وُلدنا ونشأنا فيه. بيد أن هذه الفكرة لا تأخذ في الاعتبار فارق السّياقات التي تكيّف نشأتنا وتحدّد فرصنا في الحياة. فإسناد خصائص حسب الفئة العمرية أمر مضلِّل إذ يخفي فوارق قويّة، ويتجاهل العوائق، وأوجه عدم المساواة.

إن تبنّى وجهة نظر أكثر دِقّة قد تُتيح لنا تعمُّقا أفضل في الكيفيّة التي تؤدّي بها الظّروف الاجتماعية ـ الاقتصادية دوراً في استخدام التكنولوجيا وما تُوفّره فرص اكتساب الكفاءة والأريحيّة في هذه المجالات. 

ذلك أنّ النّفاذ إلى التكنولوجيا غير متساوٍ. فمع انخفاض التّكاليف، يتزايد، في أغلب الأحيان عدد الشّباب الحاصل على معدّات خاصّة به. على أنّه يظلّ في حاجة إلى النّفاذ إلى رابط ذي جودة معيّنة، وقد رأينا كيف أنّه بقدر ما تمّ المرور إلى تلقّي الدّروس عِبر الأنترنت والعمل بسهولة نسبيّة عند الأسر المجهّزة تجهيزاً جيّدا فإنّ هذا المرور كان أصعب بكثير لدى الأُسر التي لا تملك سوى معدّات حاسوبية ووسائل ربط محدودة. ونظرا لما ترتّب عن الجائحة من قيود في التنقّلات، فقد حُرِم العديد من الشّباب من الانتفاع بشبكة الواي فاي wifi  العامة المجانية ومن الدّفق العالي للأنترنت سواء في المدارس أو في أماكن العمل.

شاشات منتشرة في كلّ مكان

من الضّروري أيضاً التّأكيد على أهمية السّياق الاجتماعي في هذا المجال. فطريقة استخدام الأُسر أو المربّين أو الأصدقاء للتكنولوجيات بغاية التعلّم، والعمل، والتّرفيه، تكتسي أهمية بالغة من حيث الطّريقة التي ينظر بها الشباب إلى هذه التكنولوجيا. وقد بيّنت جائحة كوفيد ـ 19 مدى ارتباطنا الوثيق بالشّاشات وإلى أيّ درجة يمثّل النّفاذ الجيّد والشّبكات الاجتماعية المتطوّرة مزايا واضحة.

والواقع أن التّكنولوجيات أصبحت منذ أمد بعيد من الأمور الأساسية للنّجاح الدّراسي، والحياة المهنية، والأنشطة الاجتماعية، والتّرفيه. فتبعات الانتقال إلى التعليم عن بُعد، والعمل عن بُعد، والحياة الاجتماعية على النات، وما أسفرت عنه من تجارب وعواقب بالنسبة إلى الشباب، أفضت إلى التّسريع في هذا التّوجّه.

ونهاية، فقد ألقى “المجال الرقمي الافتراضي” الضوء، على نحو ساطع، على أوجه عدم المساواة التي كانت بطبعها موجودة من قبل. وينبغي أن يحثّنا ذلك على إنشاء مجتمع رقمي أكثر شمولا وإدماجا لجميع الأجيال.

سو بينيت، مدرّسة في كلية الفنون والعلوم الاجتماعية والدراسات الإنسانية بجامعة ولونغونغ (أستراليا)، رسالة اليونسكو 2021

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى