أخلاقيات المحاجَّة: قراءة في مشروع هابرماس الأخلاقي ومضامينه النظريّة
*ـ عبير سعد، أكاديمية وباحثة في الفلسفة الغربية ـ جمهورية مصر العربية.
تستقرئ هذه الدراسة مضامين أخلاقيات المحاجَّة عند أحد فلاسفة الجيل الثالث لمدرسة فرانكفورت؛ هو الفيلسوف الألماني المعاصر يورجن هابرماس(J. Habermas)( -1929).فلقد سعى الأخير إلى تأسيس مشروع أخلاقي كوني، تقوم مقاصده على مجموعة من الإفتراضات الضرورية للمحاجَّة. إذ أن مصدر المعايير الأخلاقية والاجتماعية لم يعد الذات التي تفكر بشكل أحادي، بل إن هذه المعايير باتت تحفظ مصالح الجميع، عن طريق تحديد مجموعة من الاجراءات الضرورية لعملية النقاش التي تكون للحجة الكلمة الفاصلة فيها.
تتناول هذه الدراسة جزءًا هامًا من تلك المضامين والمقاصد من حيث معنى الأخلاقيات وخصائصها.. ثم تمضي بعد ذلك إلى فهم غاية أخلاقيات المحاجَّة، وهي الوصول إلى الإجماع تلك الفكرة التي جعلت هابرماس يدخل في حوار طويل مع فلاسفة ما بعد الحداثة حول إمكانية وجود هذا الإجماع من عدمه.
يحدد هابرماس مفهوم الأخلاقيات Ethics بأنه بحث في التأصيل الفلسفي، واستكشاف لعلوم الإنسان المتعلقة بالقيم السلوكية، وهو مفهوم قديم يمتد بجذوره إلى أفلاطون وأرسطو وكانط واسبينوزا ونيتشه..لكن الذي تغير هو طبيعة المقاربة المعاصرة لهذه المسألة جراء التراكمات المعرفية والتعقيدات البنيوية التي عرفتها المجتمعات المعاصرة التي ترفض كل إتيقا[1] باسم الإتيقا ذاتها[2]. يرى هابرماس أن البحث عن مجموعة القواعد، التي على الإنسان أن يحذوها في الحياة، قد نشأ مع فلاسفة اليونان أفلاطون وأرسطو مرورًا بالفلسفة الحديثة مع اسبنوزا وكانط ونيتشه. ويؤكد هابرماس على أن كل مرحلة تمر بها المجتمعات البشرية يصاحبها تغير في تلك القواعد، ولقد بلغ هذا التغير أوجه في المرحلة المعاصرة حيث إن الأخلاقيات في تشكلها الجديد قد رفضت كل صور الأخلاقيات التقليدية المرتكزة على الدين أو الميتافزيقا أوالمنفعة، ولأنه من الضرورى الانطلاق نحو أخلاقيات جديدة تناسب طبيعة التحولات المعاصرة التي طرأت على واقعنا المعيش.
لتحديد هذا المفهوم يتوجب علينا التمييز بين كلمة أخلاق Moral وأخلاق نظرية Ethics، إن الاشتقاق اللغوي لـ Ethics الأخلاق النظرية ترجع للكلمة اليونانية Ethos التي تعني (العادات الأخلاقية)، بينما تعود الأخلاق Moral إلى الكلمة اللاتينية Mores والتي تعني (الأعراف)، والكلمتان وإن كانتا تتسمان بدلالات متقاربة غاية القرب ، وتحيلان على مضامين متشابة إلى فكرة العادات الأخلاقية والأعراف وسبل العمل التي يحددها الاستعمال إلا أن التحليل يعطي لنا تمييزًا بينهما حيث تتسم Ethics بالسمة النظرية ، وتتجه نحو التفكير في أسس الأخلاق “فهي تبحث في قواعد السلوك التي تشكل الأخلاق والأحكام الأخلاقية حول الخير والشر”[3].
لعل هذا المعنى يتشابه مع ما قرره هابرماس في أن الأخلاقيات تبدو وكأن مجال انهمامها هو الجهد النظري لبلورة المبادئ التي عرفتها المجتمعات المعاصرة التي ترفض كل إتيقا( الأخلاقيات) باسم الإتيقا ذاتها، لذا فإن الإتيقا تبدو وكأن مجال انهمامها هو الجهد النظري لبلورة المبادئ التي تنظم علاقاتنا مع الآخرين أوفى الوقت الذي تحتفظ فيه الأخلاق Moral بمهمتها التاريخية المبدئية وهي وضع المبادئ موضع التطبيق والممارسة[4].
لعل هذا يتشابه مع ما حاول كانط أن يرسمه بأن علم الأخلاق يتعلق بتكون المبادئ الخلقية وتبريرها. ويتمثل في المصطلحات التالية: ينبغي، خير، شر، حق، باطل، وهذا ما يسميه كانط بميتافزيقا الأخلاق، أما العلم بتفاصيل الواجبات الجزئية فإنه يستند إلى الخبرة، وهذا الجانب التجريبي يسميه كانط الانثروبولوجيا العلمية.
فى ضوء تلك التعريفات صاغ هابرماس تعريفا للأخلاقيات مستمدًّا منها ولكن على ضوء التراكمات المعرفية والتحديات العالمية الجديدة، ومن ثم فإنهما يعرفان الأخلاقيات بأنها «في مسعاها المعياري العام لا تسعى فحسب إلى توضيح شروط الفهم البين ذاتية، ولكنها تهدف أيضًا إلى تحديد الافتراضات التداولية للغة، وإلى إبانة شكل التأسيس البين ذاتي أو العقلي للمعايير الأخلاقية المختلفة»[5].
إذن فهابرماس في مسعاه لتأسيس أخلاقيات معيارية ذات توجه كوني لا يريد أن يقف فقط عند حد توضيح الشروط التي تجعل من التواصل البين ذاتي ممكنًا بل هو يسعى إلى الكشف عن الافتراضات التداولية الموجودة في اللغة، والتي تعمل كآليات ضابطة للخطاب والتي تنأي به عن الوقوع في زخم التلاعب والتضليل الموجود في لغة الحياة اليومية، ويخدم مصالح الفعل الاستراتيجي، كما يسعى إلى توضيح المبادئ الكلية التي يمكن أن تندرج تحتها الصور المتنوعة للحياة الأخلاقية.
خصائص الأخلاقيات
حاول هابرماس رسم خصائص أخلاق المحاجَّة على غرار الأخلاق الكانطية كدأبه المعتاد مع كانط، وبالأدق الأمر المطلق عند كانط، ولكن بعد أن أعاد صيغته بما يتوافق مع حوارية أخلاقيات المحاجَّة لديهما. لذا ينبغي أن نعرض للأمر المطلق عند كانط ثم صيغة هابرماس الجديدة له، وكيف يمكننا أن نتوصل من خلال هذه الصيغة لخصائص أخلاق المحاجَّة عنده.
أولا: الأمر المطلق عند كانط
لقد سعى كانط إلى تأسيس أخلاق كونية عمادها الأمر المطلق الصالح للجميع والمستقل عن ظروف التطبيق، فلقد صاغ كانط هذا المبدأ الصورى في شكل قاعدة كونية، تخضع لها جميع قواعد الفعل. ويتخذ المبدأ ـ القاعدة ـ مع كانط في بداية أمره شكل أداة لاختيار ما إن كانت قاعدة ما تقصد الكلية أوالكونية. فالوظيفة الأولى للمبدإ تتمثل في كونه معيارًا يسمح بالتعرف على ما إذا كان هذا الفعل أخلاقيًا أم لا، وقد وسع كانط ميدان الأمر القطعي ليشمل ثلاث صياغات:
1. 1. افعل كما لوكان يلزم للإرادة أن تقيم قاعدة فعلك في قانون كلي للطبيعة (البعد الشخصي لاستقلال الإرادة).
2. 2. افعل بحيث تستطيع دائمًا وفي الوقت نفسِه أن تعامل الإنسانية في شخصك وفي أي شخص آخر ليس فقط كأداة وإنما أيضا كغاية (البعد الجماعي لاستقلال الإرادة).
3. 3. افعل بشكل تستطيع معه أن تسلك داخل مملكة الغاية في الوقت نفسِه كذات وكمشرع. (البعد الكسموسياسي لاستقلال الإرادة) [6].
لقد آمن كانط بأن الإرادة الخيرة التي تهتدي في وجودها بمبدإ معين هي الشيء الوحيد الذي يعتبر خيرا في ذاته، إن الإرادة الخيرة التي تريد الخير لنفسها ولغيرها هي الخير في ذاته. وإذا كان لابد للإرادة الخيرة أن تكون مبدئية في مساعيها، فإن المبدأ الوحيد الذي يجب أن تعمل به بحكم طبيعتها الخيرة هو مبدأ الأمر المطلق الذي يقضي بأن ننظر إلى أي إنسان على أنه قيمة في حد ذاته، وبسبب ذلك وجب احترامه احتراما غير مشروط. ويتمثل المعنى الجوهري للاحترام في الفلسفة الأخلاقية لكانط في التعامل مع الغير باعتباره غاية لا باعتباره وسِيلة أومطية لتحقيق المصالح الأنانية. ذلك لأن ما يعتبر غاية في ذاته هو كل ما يستمد قيمته من ذات هو يتمتع بالتالي بالاستقلال الذاتي الذي يعني استقلال الإرادة. ولذلك يعتبر كانط استقلال الإرادة أساس الكرامة الإنسانية، وجعل منه القانون الأخلاقي الكوني الذي يجب على كل فرد احترامه.
ولقد استفاد هابرماس من صياغة كانط تلك وحاول أن يدشن مبدأين جديدين لتلك الصيغة.
ثانيًا: الأمر المطلق من كانط إلى آبل وهابرماس
تقوم أخلاقيات المحاجَّة مثل الأخلاق الكانطية على مبدإِ عقلي مؤسس للمعايير الكونية، ولهذا المبدأِ صياغة متقاربة لهابرماس. وهى: يجب على كل معيار لكي يكون صالحًا أن يستوفي الشرط الذي من خلاله يقبل كل الأشخاص المعنيين لكل النتائج والتبعات والآثار الجانبية الناتجة عن قبول الجميع بالعمل به عن رضا وذلك مراعاة لكونيته ، وإن كان على حساب المصالح الخاصة لكل واحد منهم[7].
لقد تأثر هابرماس بصديقه وشريكه الفكري في مشروع أخلاقيات المحاجَّة كارل أوتو آبل في أن أهم خصائص أخلاقيات الحوار تظهر من خلال مقارنتها مع الأخلاق الكانطية من حيث إن أهم خصائصها معبر عنها بألفاظ ميتا أخلاق كونية universalistic ومعرفية cognitivistic وصورية formalistic وأدبيّاتيّة deontological وهي أخلاقيات مسؤولية ، وهي تعمل في النهاية من خلال اللغة الحوارية.
إذا كانت كل خاصية من خصائص هذه الأخلاق ملازمة بصور أو بأخرى لباقي الخصائص التي هي في النهاية تجليات لمبدأ الكونية فإننا سنحاول عرضهم بشيْءٍ من التفصيل في صورة أبعاد كالتالي:
أ ــ الكونية والمسؤولية لأخلاقيات المحاجَّة
يمكن تصنيف النظريات الأخلاقية بطرق مختلفة انطلاقًا من موقفها تجاه المبادئ الأخلاقية، بحيث يمكن التمييز بين الأخلاق النسبية والأخلاق المطلقة؛ فبينما تعني الأولى اختلاف المبادئ والقيم الأخلاقية بحسب المكان والزمان، يعني النوع الثاني وجود مبادئ أخلاقية عامة تُطبق على جميع الناس في كل زمان ومكان مهما اختلفت ظروفهم وآراؤهم[8].
فى ظل هذا التصنيف الشائع للنظريات الأخلاقية سعى هابرماس إلى تأسيس أخلاقيات تتجاوز الدوائر الأخلاقية الصغرى Micro إلى ما هو أرحب، إلى الإنسانية كافة أي تأسيس الأخلاقيات على مستوى الوحدات أو النظريات الكبرى Macro ويشرح هابرماس معنى الكونية أوالكلية بأنها تنبع بشكل واضح من أن الفرد الذي يشترك في نقاش من أي نوع طبقًا لمبدإ التعميم يكون قادرًا على الوصول إلى الحكم نفسِه لمدى قبول المعايير الخاصة بالأحداث. وهذا يعني أنه إذا كانت الأخلاق الكانطية تتجه نحو تأسيس قانون أخلاقي كلي، فإن الأخلاق المقترحة من هابرماس تعتمد على ممارسة وتطبيق يتجلى من خلال فاعلية الحوار والنقاش لإرساء قواعد أخلاقية تتسم بالكلية، إلا أنه يوافق كانط في إن دور الأخلاق أوالعقل العملي ليس وصفها أمور الواقع أوالتنبؤ بها وإنما ينحصر مجالها فقط في أن تخبرنا كيف يجب أن نحيا وماذا يجب أن نعمل [9].
إن هابرماس يرفض أن يكون دور الأخلاق قاصرًا على رصد لما يحدث في الواقع والتنبؤ به، إنما لابد يكون موجه للصورة التي ينبغي أن تكون عليها حياتنا.
يرمي هابرماس إذن من إلصاق الطابع الكلي بالأخلاق إلى رفض ترك مجال الفعل الإنساني في الأخلاق والسياسة للقرارات النسبية والحسابات الفردية ولحظة الاختيارات اللامعقولة، وهذا يجعلنا نذهب مع هابرماس إلى الحاجة إلى أخلاق كلية مبنية على أسس عقلية ومبادئ مقنعة على صعيد عالمي، حيث أصبح طرح مشكلة أسس الأخلاق اليوم بعد كانط أمرًا ضروريًّا نظريًّا بعد أفول الأخلاق التقليدية والقيم العلمية الصادرة في الأديان والتي أضعفت النظم المعاصرة[10].
إذن فهابرماس من خلال هذا الطرح يرنو لتأسيس البعد الكوني للأخلاق المتمثلة في شقين متكاملين أولها شمول جميع الأطراف ـ أي الأشخاص المعنيين كما في صياغة الهابرماسية ـ وثانيها إمكانية تعميم الحكم، وبهذين الشقين يتجاوز هابرماس عيوب النظريات الأخلاقية القائمة على سببية الأحكام الأخلاقية. وإذا كان البعد الكوني هاجسًا في أخلاق المحاجَّة عند هابرماس.
لقد خلص هابرماس إلى أننا في حاجة إلى أخلاق تتلاءم مع المرحلة ما بعد العرفية وهي مرحلة موجهة بمبدأ الكونية وهي الخاصية التي نجدها حاضرة في الأخلاق الكانطية، وتتميز المرحلة الأخيرة عن المرحلة لما قبل عرفية، والمرحلة العرفية بحضور القانون الوضعي الحديث. ولكن للأسف الشديد مازلنا في مجتمعنا المصري في كثير من الأحيان يظهر أننا لم نتخطَّى المرحلة العرفية وفكر القبيلة إلي فكر المواطنة والدولة الحديثة ، وخير مثال على ذلك في مشهدنا المصري هو الجنازة الضخمة لقبيلة السواركة في شمال سيناء ورفعهم لعلم القاعدة في تحدٍّ سافر للحكومة المصرية عقب أحداث مسجد الفتح.
وإن الأخلاق كما يسعي إليها هابرماس لابد أن تكون مؤسسة على أسس عقلية، أي أن المعايير الأخلاقية في المرحلة ألما بعد عرفية غير قائمة على اتفاقات عرفية، بل نابعة من العقلانية التواصلية والمناقشة العملية، وبالتالي فهي لا تستمد سلطتها من أيّ أسس ميتافزيقية أو دينية.
إذن فالعقلنة القابعة في قلب المرحلة الما بعد توافقية؛هى القادرة على أن تحرر الحكم الأخلاقي من الارتباط بسلطة كل الاتفاقات والأعراف المحلية وأيّ نزعة تاريخية لشكل الحياة الخاصة، فالحكم الأخلاقي في المرحلة ألما بعد عرفية له طابع كوني مجرد يتخطى هذه الحدود الثقافية لأنه حكم يبنى على المحاجَّة بوصفها أساسًا للفعل التواصلي، وهو الأساس الذي في إمكانه من يحظى باتفاق جميع الأشخاص المعنيين المنتمين للمحاجّة. إنه انتقال إلى مرحلة جديدة مخالفة للمرحلة العرفية، تلك التي تغيب فيها سلطة العقل، ويتم فيها الخضوع للأعراف والتقاليد السائدة دون مناقشة، حفاظًا على تمسك العلاقات والروابط الاجتماعية.
لعلنا نلاحظ الأثر القوى لكولبرج على هابرماس وبحثه عندما نقل نتائج تطور الوعي الأخلاقي عند الطفل وانتقاله من المرحلة ألما قبل عرفية إلى المرحلة العرفية وما بعدها، كما بيّنها كولبرج Kohlberg في بحثه، وتطبيقها على مراحل تطور الوعي الأخلاقي في المجتمع بشكل عام.
إن الوضع العالمي الراهن؛ هو الذي جعل هابرماس يسعى لإدماج المسؤولية المشتركة للبعد الكوني لأخلاق المحاجّة متأثرًا بصديقه آبل.
إن أخلاق المحاجّة لدى هابرماس وفقًا لصيغته تنص على مسؤولية الفاعل تجاه تبعات فعله وآثاره لما كان الفاعل هنا هو البشرية جمعاء، وبالضرورة أن تكون المسؤولية أيضا مسؤولية جماعية، وهذا ما سوف يتضح بارتباط أخلاق المناقشة بالبعد السياسي ولكن ما يعنينا هنا هي الدوافع التي جعلت هابرماس يعمد إلى ترسيخ هذا البعد في أخلاقيات المحاجّة لديه، ويمكننا إجمالها من خلال كتاباته على النحو التالي:
1. 1. الخطر المدمر الذي يتسبب فيه التنافس النووي حول الحياة وعلى الأرض، فقد أدى التطور العلمي إلى شبه استقلال للتقنية العلمية مما أفضى إلى اتساع الهوة أكثر فأكثر بين عالم الإدراك وعالم الفعل، لذلك باتت الطبيعة في بعديها البيئي والحي مهددة بالتشويه وبالزوال بفعل حرب استراتيجية ذرية أو بيولوجية، «وفي مثل هذا الصراع لا فرق بين العدو والصديق في التأثر بمخلفات الحرب»[11].
2. 2. هيمنة حياة أخلاقية جوهرية للمجموعات البشرية ساهمت ولا زالت تساهم في حصر الأخلاق داخل محتوى حضاري وثقافي معين، تعبر عنه مركزية ثقافية أوروبية وجنون عظمة أمريكي يجثم على العالم، ومن أخطر تبعات ذلك الاستعمار الحديث والجديد والمتجدد ومن مظاهره ما يشيع اليوم تسميته بصدام الحضارات[12] أو صراعها؛ والذي من سماته هيمنة نوع من السلفية أو الأصولية انعكست على ميادين أخرى مثل الدين والسياسة والحق.
3. 3. هيمنة المعقولية التقنية والاستراتيجية على ميادين التعامل والتواصل وتحول الإجراءات إلى عمليات عقلية تتحكم فيها غايات ومنافع خاصة داخل موازين قوى استراتيجية مدفوعة إلى أقصاها.
4. 4. ما يمكن أن يسميه هابرماس بالأعباء الكبرى السياسية ـ الأخلاقية لوجودنا الخاص وهي إضافة إلى الخطر النووي، الجوع والبؤس في العالم الثالث، وأخيرًا التعذيب والانتهاكات الإنسانية المتفرقة في دول اللاعدل[13].
إن دوافع هابرماس إلى إرفاق بعد المسؤولية بالأخلاق نابعةٌ من أننا أصبحنا نعيش بمصطلحات أولريش بيك في “مجتمع المخاطر”[14]، هذا المجتمع الذي تهدده الأخطار من كل جانب، سواء على جانب التقدم التقني في مجال الأسلحة النووية ، وما يمكن أن يحدث من جراء استخدام القنبلة النووية للبيئة بكل كائناتها بما فيها الإنسان ، فأثر استخدام تلك القنابل سيطال الجميع، ولن يفرق في تأثيره بين من يستخدمها ومن تُستخدم ضده، وسيؤول في النهاية إلى كارثة بيئية تودي بالجميع، بالإضافة إلى رغبة الولايات المتحدة وبعض الدول في السيطرة على العالم من جديد، ولكن السيطرة هذه المرة مختلفة عن صور الاستعمار التقليدية من حيث الآليات والطابع الثقافي الذي صار يغزو العالم. وفي مقابل استشراء النزعة الاستعمارية الجديدة (العولمة)، يتم إحياء النزعات الأصولية المتطرفة التي ترفض كل صور الحداثة وتأصيل سياسة الإنغلاق على الذات، وفي هذه الأجواء يستغل البعض أطروحة صمويل هنتنجتون من أن بعض الحضارات لديها استعداد أكبر للحرب، فالعنف متأصل في بنيتها مما ينعكس على نظمها السياسية والاجتماعية، وعلي علاقاتها بالحضارات الأخري التي تتخذ شكل الصدام لا الحوار. فضلاً عن استفحال النزعة الأداتية وسيطرتها على مجمل نواحي الحياة، وثمة غياب التواصل الخلاق في عالم البشر. ويضاف إلى هذه الأخطارِ أعباءٌ لا تقل في خطرها عن الأخطارالسابقة، منها الفقر وانتهاكات حقوق الإنسان في ظل غياب العدالة السياسية والاجتماعية.
ب ــ البعد المعرفي
إذا كانت التجربة من المنظور الكانطي تعجز عن أن تكفل للأخلاق اليقين والضرورة باعتبار أنّ أحكامها لابد أن تتسم بالشمولية والموضوعية ولما كان الضروري واليقيني ناتجًا عن المعرفة القبلية الأولية والتي تصدر عن العقل وحده؛ لذا فكانط لجأ إلى تحليل التصورات العقلية- بصورة قبلية- للكشف عن التصورات الأخلاقية بعيدًا عن كل تجربة أو واقع عملي، وهذا من أجل ضمان كونيتها وشمولها، وهنا نلتقي مع التوجه الكوني للأخلاق بصورة قبلية، أي أن مشروع كانط الأخلاقي وما يحمله من مضامين كونية موجه مسبقًا وفق فكرة الكوني، «فمن التناقض أن يحاول المرء استخلاص الضرورة من أحد مبادئ الخبرة، وأن يحاول بهذا إعطاء أحد الأحكام شمولية صحيحة، حيث يتبين من القاعدة ـ سالفة الذكرـ في صياغة هابرماس أنها من صنع الفكر وليست من العاطفة أو العادة أو من التجربة، وهذا معنى معرفة أخلاقيات المحاجة.
في هذا الصدد يقرر هابرماس أن البعد المعرفي حقيقة لا متناهية معبرًا عن ذلك بقوله «فلقد دافعت دائمًا عن وضع معرفي ـ إدراكي غير واقعي في مجال النظرية الأخلاقية دون الرجوع إلى انتظام أخلاقي بديهي ومعروف مشكل من وقائع أخلاقية يمكنها أن تكون في متناول الوصف، لذا فإنه لا ينبغي الخلط بين المنطوقات الأخلاقية التي تبين لنا ما ينبغي علينا فعله، وبين المنظورات الأخلاقية التي تبين لنا ما ينبغي علينا فعله، وبين المنطوقات الوصفية التي مهمتها هي تبيان الطريقة التي نرى بموجبها الأشياء كما تبدو في علاقتها المتشابكة، فالعقل العملي في النهاية هو ملكة للمعرفة الإدراكية الأخلاقية دون تمثلات[15].
إذا كان هابرماس يقرر أن المعرفة الأخلاقية لابد أن تصدر من العقل فان هذا يقودنا إلى الحديث عن بعد أخر يعد انعكاسا صريحًا لمبدإ المعرفة؛ ألا وهو البعد الصوري لأخلاق المحاجَّة عند هابرماس.
جـ ــ البعد الصوري
يري هابرماس أن الصورية هي التي تعمل كقاعدة لإلغاء المحتوي غير الشمولي أوغير التعميمي لكل التوجهات القيمية المتعينة التي تتخلل السِّيَر الذاتية وأشكال الحياة الخاصة؛ من الناحية التقويميّة فضلاً عن قضايا الحياة الجديدة؛ فإنّه بالتالي لم يبق سوى قضية العدالة فقط التي هي المعيارية بالمعني الدقيق للكلمة؛ والتي في وسعها وحدها أن يتم تسويغها عن طريق حجة عقلانية من مبدإ التعميم ـ وأخلاق الخطاب تضع نفسها في المعارضة مع الافتراضات الأساسية للأخلاق المادية، هذه الأخيرة التي تميل نحو السعادة والغاية الأنطولوجية لنمط عملي من الحياة الأخلاقية أوغيرها. وعن طريق تجديد مجال صحة الأخلاقية تسعى أخلاق النقاش إلى الخروج من محتويات قيمية ثقافية محددة[16].
لعل ذلك ما رمى إليه كانط عندما نظر إلى القانون الأخلاقي على أنه الذي يدفع الإرادة ولابد أن يكون مستقلا عن التجربة- أي غير محدد المضمون أو مادة الفعل ـ وإنما ينظر دائما إلى شكله (صيغته الصورية)، والكائن العاقل يتصور قواعده كقوانين كونية ومبادئ لا تحددها الإرادة بواسطة المادة بل بواسطة الشكل فقط، ومن الواضح أنه إذا كانت الإرادة لا تحدد بالنسبة للمادة لتصبح أخلاقية، فإنه لابد أن تستغني عن مادة القانون ولا يبقى من ذلك إلا شكل القانون ـ أي كونيته ـ ذلك أن الكائن العاقل لا يستطيع أن يعتبر قواعد سلوكه كقوانين عملية كونية ما لم يدرك أن هذه القواعد هي مبادئ تعين الإرادة ولا تقوم بتعيين الإرادة بواسطة مادتها بل شكلها
يتبين إذن أراء هابرماس لصورية الأخلاق كان من أهم الأبعاد التي سعى هابرماس لترسيخها باعتبارها الضامنة لكونيةالأخلاق و تحررها من أن تظل حبيسة ثقافة أومجتمع محدد.
د ــ البعد الواجباتي
إذا كانت فكرة الواجب أمر يقتضيه النسق المعرفي لفلسفة كانط الأخلاقية، ذلك أن الإرادة الخيرة مهما كانت خيرة بذاتها فإنها ليست خيرة وكاملة ـ اللهم إلا إذا أمكن تصور إرادة الله خيرة وكاملة ـ أما إرادة الإنسان فإنها تواجه ظروفًا ومواقفًا تحد أحيانا من فعاليتها، وبالتالي فمن الضروري أن تستند إلى الواجب والتزاماته. فكما كان البعد الواجباتي أمر يقتضيه النسق المعرفي الكانطي،كان الأمر بالمثل مع أخلاق المحاجّة لدى هابرماس؛ حيث يرى هابرماس أن أخلاقيات الحوار تنعق من شريفة الوعي الذاتي وتتأسس على معيار كوني يتعدى أفق ثقافة محددة، لأنه يفترض البشرية كمجموعة حوارية مثالية وهذا ما يوضحه نعت هذه الإتيقا ( الأخلاقيات) بأنها علم واجياتية أي أنها متميزة عن كل أخلاق نفعية أوغائية أو أكسيولوجية لحياة طيبة على النمط الأرسطي[17].
إن أخلاق المحاجّة؛ هي أخلاق واجبات أي لا تقدم تحديدًا لمحتوى السعادة الجماعية مثلما نجد لدى أفلاطون أو أرسطو، ولا فردية مثل مذهب المنفعة الحديث، ومع ذلك هي لا تهمل قيمة السعادة في تحقيق الخلفية الفردية والاجتماعية. فلا يمكن اعتبار سلوكٍ ما أخلاقيًّا ما لم يكن الباعث هو مبدأ الواجب الأخلاقي، بيد أن طبيعة الواجب هنا مختلفة عن طبيعته عند كانط، حيث ربط كانط الواجب باستقلال الإرادة الفردية بينما مَرَدُّ الواجب عند هابرماس نابعٌ من الالتزام بالشروط التعاقدية لجماعة المحاجة.
غاية الأخلاقيات
إذًا كان الهدف من التفاهم عند هابرماس هو الوصول إلى نوع من الاتفاق zustimmen يؤدى إلى البين ذاتية المشتركة وإلى التفاهم المتبادل وإلى التقارب في النظريات والآراء، وهذه الأبعاد من البين ذاتية تقابلها إدعاءات الصلاحية التي تتمثل في المعقولية والحقيقة والدقة والصدق، والتي يستند عليها كل شكل من أشكال الاتفاق، ومن ثم فان التفاهم هو تلك العملية التي من خلالها يتحقق اتفاق معين على الأساس المفترض لادعاءات الصلاحية المعترف بها بإتفاق مشترك، لكن السؤال الملح إزاء كل هذا هل يمكن قيام تواصل وإجماع حقيقيين(Zustummenkonnten). ولقد قام آبل بإعادة النظر في مفهوم المحاجة،حيث ربطه بمفهوم الإجماع، ذلك أن الانخراط في محاجة جادة يفضي بنا إلى القبول ضمنيًّا بمبدإ معياري أخلاقي مفاده أنه ينبغي إخضاع أي نزاع أو خلاف يقع بين الذوات المنضوية في نقاش ما إلى حجج محددة يكون هدفها الأساسي بلوغ الإجماع، ومن ثم سيصبح هذا المعيار مطلبًا أوليًّا لإمكانية قيام مناقشة ممكنة ولا ترفًا فكريًّا يمكن الاستغناء عنه[18].
لقد سار هابرماس على الدرب نفسِه. وذلك يتضح من خلال المسارات السابقة التي حددها هابرماس كآلية لتنظيم عملية المحاجَّة وتحصيل المعرفة الاتفاقية التي تخص أي عالم من العوالم الثلاثة[19]، فهو يبدأ تلك المسارات بالنزاع والإشكال القائم بوجه موضوع البحث، ومن ثم مسارًا ثانيًا يشكل تمحيص لقوة الحجة وأفضليتها على غيرها، تأييدًا أو رفضًا، وفي الثالث تؤخذ النتائج كموضوع متوافق بشأن ما، ليعمم تصحيح السلوك واتخاذ تلك النتائج معيارًا توافقيًّا يماثل دلالة الإجماع[20].
على ذلك فإن مبدأ التواصل عند هابرماس لا يعبر عن تفاهم بسيط بين الأطراف الذين يقدمون اقتراحات لغوية وإنما هو شرط ضروري لتنسيق الأفعال في المجتمع؛ فالتواصل الذي يتعلق به الأمر؛ يُوجه في كل مرة نحو أهداف محددة جيدًا ولبلوغها يتبادل المشاركون القبول بها، وتحقق إمكانية القبول بها لعقلانيتها[21].
يؤكد هابرماس على ضرورة التميز بين نوعين من السلوك: بين السلوك الخاضع لمبدإ «وسيلة ـ غاية» في بعديه التكنيكي والاستراتيجي، والسلوك التواصلي. يهدف هابرماس من ذلك إلى القول بأن السلوك التواصلي يخضع لدعاوى قَبْلية كلية، بغية خلق الظروف المواتية للوصول إلى الإجماع عبر ضرورة تبادل الحجج دون أن نجعل أحد طرفي الحوار وسيلة الوصول إلى أهداف شخصية[22].
إن تأكيد هابرماس وصديقه آبل على الدفاع عن الكلية الكونية للصلاحية والإجماع كغاية لأخلاقيات المحاجَّة جعلهما يدخلان في سجال[23] طويل مع الفيلسوف الفرنسي ليوتار (1924 ـ 1998)(F.Lyotard) حيث يرى ليوتار Hن ما يدعوه أزمة الأسس ليس أمرًا نستطيع غض الطرف عنه يسير بغير تحصيل إجماع حجاجي مزعوم في حين نفتقر في الواقع إلى مثل هذا الإجماع في صلب العلوم الفيزيائية ذاتها[24]. وفحوى ما يقوله ليوتار هو أن الحقيقة أمر متعدد؛ وأن علينا التخلي عن تلك السرديات الكبرى المغالية، التي تدعى أنها تعرف حقيقة كل شيء. علينا قبول أن الألعاب اللغوية متغايرة الخواص، وليست متجانسة، وأن أمر السرديات الكبرى لا يقتصر على كونها لا تصدق فكريًّا، بل يتعداه إلى كونها خطرة على المستوي السياسي والأخلاقي؛ لأنها تضفي طابع الكلية على ضروب مختلفة من المعرفة وتجمعها في كلٍّ واحدٍ متجانسٍ، ما يعني في الواقع أنها كليانية، بل وإرهابية. أما اعتراض ليوتار على هابرماس فيتمثل في أن نظريته تقوم على فكرة أن اللغة موجهة أصلا باتجاه التوافق وأن هذا لوتحقق لكان كفيلا بانتاج سردية كبرى قمعية جديدة هي سردية «الاتفاق العام»[25].
تعد من أهم مزايا أخلاقيات المحاجَّة عند هابرماس؛ إعادة السؤال الفلسفي الأكثر كلية وجذرية، وهو لماذا الوجود الأخلاقي بشكل عام، أوبالأحرى ما معنى الوجود الأخلاقي؟ وهما من الأسئلة التي روجت بعض الفلسفات الوضعية والما بعد حداثية أن الزمن الفلسفي قد عفا عليهما مع المعقولية الميتافيزيقية. وتقدم أخلاقيات المحاجّة نفسها كاستجابة للتراكمات المعرفية والتعقيدات البنيوية التي عرفتها المجتمعات المعاصرة والتي تعترض البشرية في عصر العلم والتكنولوجيا والذي هو عصرنا، عصر العولمة بكل تحدياتها السياسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، هذا العصر الذي سيطر فيه العلم والتقنية على جميع أبعاد الحياة البشرية.
جاءت الأخلاق عند هابرماس مبنية على مبدأ الكونية، وإن كان هذا المبدأ يتخذ منحى مختلفًا عند آبل وهابرماس عما هو معروف عند منظري التوجه الليبرالي كهارت وجويرث ودو وكين ورولز وصاندل؛ بحيث يتحقق لديهم عن طريق الإذعان والتسليم وإلا فقدت الانسجام في تطبيقاتها.
إذ يفترض مبدأ الكونية عند هارت موافقة الذات أن تضع نفسها مكان الآخرين لترى العالم بعيونهم، وأن تتقمّص دور الحكم الذي يشترط فيه مراعاة جميع مصالح المشتركين في اللعبة وبالحياد عن جميع الأطراف[26].
على العكس من ذلك تتضمن الكونية ـ كما يدافع هبرماس ـ توافقًا بين المعنيين يقوم بواسطة الحجاج، ويتم أثناء دفاع كل طرف عن موقفه بالبراهين بكل حرية ومساواة مما يتيح إمكانية تحصيل التوافق ومن ثم الإجماع.
إن تأكيد آبل وهبرماس على الكونية كصفة ومطلب لأخلاق المحاجَّة نابعًا من التحديات المعاصرة التي نحيا في ظلها، والملاحظ أن باقي خصائص الأخلاق الأخرى هي بمثابة دعامات لهذا المبدأ، وإذا كانت هذه الخصائص استمدها آبل وهبرماس من الفلسفة الكانطية، ولكن بعد أن أعادا انتاجها، وأضافة صفات جديدة؛ لتجعلها تتجاوز عيوب النظرية الأخلاقية الكانطية.
وإن ظلت الأخلاق الكانطية بإعترافهما الأساس الذي ينطلقا منه،وهذا ما عبر عنه آبل«إن أخلاق التقاش قد تشكلت باسم التحول التداولي الترنستدالي للأخلاق الكانطية»[27]. في نفس الصدد عمد هبرماس إلى تأكيد نفس المعنى حيث يقول: «لقد بدأت أنا وزميلي كارل أوتوآبل في السنوات الأخيرة في محاولة لإعادة صياغة بشأن تأسيس المعايير، أي الأخلاق الكانطية وذلك من خلال وسائل مستمدة من نظرية التواصل»[28].
تبدو إعادة الإنتاج واضحةً في تجنب خصائص مثل الصورية والديونطولوجية، فالمتأمل للخاصية الأولى يجد أن آبل وهبرماس قد نقدا صوريّة الأخلاق الكانطية واستشهد هبرماس في هذا الصدد بنقد هيجل،فيكف لهما أن يكررا هذه الخاصية ويحافظا عليها داخل أخلاق لديهما، لقد حاول هبرماس أن يحل هذه المعضلة، وأن يحافظ على الطابع الكوني للأخلاق الصورية، وفي ذلك اتجه هبرماس إلى ربط المقاصد الكونية للأخلاق الصورية بالواقع الاجتماعي أوالعالم المعيش عن طريق القانون باعتباره التعيين الحقيقي للأخلاقيات بعد مأسسته
أما الخاصية الثانية الديونطولوجية أوالواجباتية،فقد أغفل كانط إمكانية ربط الواجب الأخلاقي بالأخر، أي لم يشر إلى القانون الأخلاقي بحسب التبلور في علاقته بالأخر انطلاقًا من تجربة بينذاتية؛ هذه التجربة التي ستدعمها أخلاقيات المحاجَّة عند هبرماس، فعلى الرغم من أن كانط قد أشار في الصيغة الثانية للأمر المطلق إلى احترام الآخر «أفعل بحيث تستطيع دائمً وفي نفس الوقت أن تعامل الإنسان في شخصك وفي أي شخص آخر ليس فقط كأداة وإنما أيضا كغاية».
بيد أن بول ريكير قد وجد في الحالة الكانطية أن الأمر هنا صادر على احترام القانون الأخلاقي «فكانط قد رأى الأولوية للقانون الأخلاقي على الآخر، إلا أننا نجد هبرماس في أخلاقيات المناقشة يقدم أولية للآخر على القانون الأخلاقي، لأنه يمكن صياغة القانون الأخلاقي الذي لن يكون صالحًا إلا باتفاق المعنيين به. بفعل هذا القلب الذي أحدثه هبرماس؛ والذي أصبح بموجبه القانون الأخلاقي نتاج حوار يكون هبرماس قد قلب المعادلة الكانطية وهذا ما دفع الفيلسوف بول ريكور إلى التأكيد على أولية واحترام الآخر على احترام القانون الأخلاقي[29].
كما يمكننا أن نرى مع أندروا إيدجر Edgar أن الخلاف بين الأخلاق الكانطية و أخلاقيات المحاجَّة ناتج من اعتماد آبل وهبرماس على المناظرة الحجاجية فعلى العكس من المقاربة الكانطية حيث يكون المشاركين في الخطاب الأخلاقي ليسوا مجرد كائنات عاقلة بل هم أفراد واقعيون، فهذا التنوع في الأشخاص وفي اختلاف مآربهم وحاجاتهم ومصالحهم هو ما يعطي للمناقشة العملية قيمتها عند هبرماس[30].
إنّ هبرماس حاول أن يؤسس نظرية أخلاقية جديدة تولى اهتمامًا كبيرًا للبعد البين ذاتي للأخلاق التواصلية هي المسؤولية المشتركة التي يتحمل فيها الجميع نتائج حجاجهم. وتلك الصفات الجديدة لمنهج المحاجَّة تجعلها تتميز عن الأخلاق الكانطية.
___________________________________
*مجلة الاستغراب
[1]*ـ أكاديمية وباحثة في الفلسفة الغربية ـ جمهورية مصر العربية.ـ اعتاد بعض الباحثين العرب ترجمة Ethics بـ “إيتيقا” أي الأخلاق النظرية، لكننا نميل إلي ترجمتها الأخلاقيات، لذا سوف ترد المفردتان في هذه الدراسة على المعنى نفسه.
[2]ـ يورجن هابرماس، إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، ترجمة: عمر مهيبل، الدار العربية للعلوم، ناشرون ومنشورات الاختلاف، الجزائر، 2010، ص12.
[3]ـ جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة : عادل العوا ، منشورات عويدات للنشر والطباعة، بيروت، 2007، ص 11.
[4]ـ يورجن هابرماس، إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، مرجع سبق ذكره، ص 15.
[5]ـ المصدر نفسه ، ص16.
[6]ـ محسن الخوني: كونية الإتيقا من كانط إلى هابرماس وآبل، مجلة أوراق فلسفية؛ القاهرة، العدد 23، 2009، ص26.
[7]- J Habermas: Moralbewubtsein und Kommunikatives Handeln , Frankfurt -am Main- Suhrkamp, 1981. s,76.
[8]ـ سمير بلكليف، ايمانويل كانط،،: فيلسوف الكونية، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2011، ص24.
[9]ـ هنري أيكن: عصر الايديولوجيا، ترجمة محي الدين صبحي، دار الطليعة، بيروت 1986، ص 6.
[10]ـ أبو النور حمدي أبو النور: الأخلاق والتواصل عند يورجن هابرماس مرجع سبق ذكره، ص 212.
[11]ـ انظر محمد عبد السلام الأشهب، أخلاقيات المناقشة، مرجع سبق ذكره، ص 109.
[12] – J.Habermas. Moral consciousness and communicative,trans: Christian lenhardt and shierry weber nicholsen, IntrodthomasMcCarthy,Polity press, 1990.p. 6.
[13]ـ حسن الخوني: كونية الإتيقا، مقال سبق ذكره، ص 41.
[14]ـ انظر:فرانسيس فوكاياما، نهاية التاريخ وخاتم البشرية،ترجمة حسين أحمد أمين،مركز الأهرام للترجمة والنشر،القاهرة، 1993.
[15]ـ المرجع نفسه، ص 41.
[16]ـ أولريش بيك، مجتمع المخاطر العالمي بحثًا عن الأمان المفقود , ترجمة: علا عادل وهند إبراهيم , المركز القومي للترجمة، القاهرة، 2013.
[17]ـ يورجن هابرماس: إتيقا المناقشة ومسألة الحقيقة، مرجع سبق ذكره، ص 56.
[18] – Habermas J. Moral consciousness and communicative,op.cit.p.121
[19]ـ محسن الخوني: كونية الإتيقا، كونية الإتيقا من كانط إلى هابرماس وآبل، مجلة أوراق فلسفية؛ القاهرة، العدد 23، 2009.، ص 37
[20]ـ كارل أوتو، التفكير مع هابرماس ضد هابرماس، مع هابرماس ضد هابرماس، ترجمة: عمر مهيبل،، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2005 ص 19.
[21]ـ والعوالم الثلاثة التي يقصدها هابرماس هي 1- العالم الموضوعي الطبيعى 2- العالم الاجتماعى3- العالم الذاتي.
[22]ـ علي عبود المحمداوى، الإشكالية السياسية للحداثة من فلسفة الذات إلى فلسفة التواصل:هابرماس نموذجا، منشورات الاختلاف، الجزائر، 2011.
[23]ـ المرجع السابق, ص225.
[24]ـ مانفريد فرانك، حدود التواصل الاجتماع والنتائج بين هابرماس وليوتار، ترجمة: عز العرب لحكيم بناني، أفريقيا الشرق, ليبيا، 2003، ص71.
[25]ـ لقد دار سجال طويل بين ليوتار وهابرماس عندما ظهر كتاب ليوتار”الوضع ما بعد الحداثي”؛ والذي عرض فيه ليوتار لمشروع هابرماس الفكري بالتحليل والنقد مما جعل هابرماس يرد عليه في عام 1980 في مقالة بعنوان “الحداثة مشروع ولم يكتمل”.
[26] – إسماعيل مصدق: يورجن هبرماس ومدرسة فرانكفورات:النظرية النقدية التواصلية، المركز الثقافي العربي، المغرب، 2005ص 153.
[27] – Karl ottoApel, Resonse to discourse, to the challenge of the human Sitiuation as such and e specially ed. Peter, 2001, 50.
[28] -J. Habermas:Moralbewubtsein und Kommunikatives Handeln , op cit, S.83.
[29]ـ بول ريكور، الذات عينها كآخر، ترجمة: جوج زيناتي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، لبنان،2005،ص 538.
[30] – Edgar, Andrew: Habermas The key concept, Routlege, London and New York, 2000. p. 9